الاجتراء على المستقبل
أمريكا .. في بداية التاريخ !
عندما يقول فوكوياما أن الديموقراطية الليبرالية ـ سواء كانت متحققة في الولايات المتحدة أم لا ـ هي نهاية التطوّر الأيديولوجي للبشر، يقع قي خطأ سـاذج يثير السخرية، أكثر ممّا يحفز الإنسان للرد عليه .. كيف يخطر ببال بشر أن يقول بنهاية أي شيء في حياة البشر ؟ . و مرّة أخرى، كيف يغيـب عن فوكوياما سياق التطوّر البشـري، و العلاقة التاريخية بين طبيعـة الأسس المجتمعية في حياة البشـر و بين التكنولوجيا الأساسية السائدة في المجتمع ؟ .. و كيف لم يفهم أن التكنولوجيا الأساسية السائدة، و الأسس المجتمعية النابعة منها، هي التي تحدد طبيعة النظم في المجتمع، و التي من بينها نظام الممارسة السياسية ؟ .
ألم يصل إلى علم فوكوياما ما قاله المفكّر الياباني المستقبلي، و أحد قادة التحوّل المعلوماتي في اليابان، يونيجي ماسودا، و الذي وضّح مراحل تأثير التكنولوجيا الابتكارية ( كالآلة البخارية بالنسبة لعصر الصناعة، و الكمبيوتر بالنسبة لعصر المعلومات)، على النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية في مجتمع ما، على الصورة التالية :
المرحلة الأولى : و فيها تقوم هذه التكنولوجيا بنفس العمل الذي كان الإنسان يقوم به سابقا .
المرحلة الثانية : و فيها توفّر هذه التكنولوجيا إمكانيات في العمل، لم يكن بإمكان الإنسان أن يقوم بها في أي وقت، لا في الماضي و لا في الحاضر و لا في المستقبل .
المرحلة الثالثة : بناء على ما سبق، تتحوّل البنية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية القائمة، إلى نظم اجتماعية و اقتصادية و سياسية جديدة .
بل أمريكا في بدايته
قبل أن يسعى إلى تقنين النوايا الاستعمارية الحالية للإدارة الأمريكية، على فوكوياما أن يتأمّل أوضاع أمريكا الحالية بشيء من الأمانة، و سيكتشف أنّها في بداية التاريخ، و ليس نهايته، و السر في ذلك أنّها :
• تفوّقت أمريكا في العلوم و التكنولوجيات المعلوماتية، بما يرشّحها، وفقا لرؤية ماسودا، للدخول إلى مجتمع المعلومات .
• غير أن تناقض التحولات الطبيعة مع مطامع الفئة الحاكمة من كبار الأثرياء، حال دون سيادة النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، النابعة من طبيعة مجتمع المعلومات .
• و هكذا شهدنا هذه المعالم الواضحة لانفصام الشخصية في واقع المجتمع الأمريكي . تطوّر كبير في التكنولوجيا المعلوماتية، و تطبيقاتها، مع تخلّف في النظـم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .
و لا شك أن مثل هذا القول بتخلّف الأوضاع الأمريكية، قد يثير الاستنكار لدى كتّابنا و مفكّرينا، لكن المتابع للكتابات الحرّة في المواقع الأمريكية على الإنترنيت، يمكنه أن يرى مظاهر ذلك التخلّف، التي تنجح وسائل الإعلام المملوكة لكبار الأثرياء أن تخفيها، و تصرف الأنظار عنها . و عندما نقول أن الولايات المتحدة في بداية التاريخ، و ليس عند نهايته، فنحن ننظر إلى الجهد المطلوب للتخلّص من فئة الأثرياء التي تحكم قبضتها على عنق الشعب الأمريكي، ثم فهم طبيعة النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي تنسجم مع الدخول إلى مجتمع المعلومـات، و العمل الجـاد على تطبيقها .. حتى تدخل الولايات المتحدة الأمريكية التاريـخ بشكل مشرّف، دون أن تتورّط في تحقيق
مطامع الإدارة، التي تجلب لها لعنات شعوب العالم .
لن أتعرّض الآن المهام الثقيلة أمام أمريكا في المجالات الاجتماعية، كالأسرة و التعليم و الخدمة الصحية و الاجتماعية . و لا لمهمة التحوّل من الاقتصاد القائم على ثوابت الاقتصاد الصناعي التقليدية، إلى الاقتصاد الجديد الذي يفرضه واقع عصر المعلومات . سأقتصر في حديثي على الديموقراطية، التي يثيرها فوكوياما في وجهنا كالسيف، غير منتبه إلى أن ذلك السيف ثنائي الحد .
ديموقراطية التمثيل النيابي، بتنويعاتها المختلفة، هي من ابتكار مفكّري بدايات عصر الصناعة . و قد كانت انتصارا كبيرا للإنسان، رغم جميع عيوبها، التي بدت ظاهرة للعيان منذ منتصف القرن الماضي . و هي ـ كما يقال ـ كانت أقل الخيارات ضررا . و مع انقضاء عصر الصناعة، و اندفاع عصر المعلومات، بدا واضحا أن هذه الممارسة السياسية لم تعد مناسبة لطموحات البشر في مجتمع المعلومات، و بدأ الحديث عن أشكال جديدة للممارسة الديموقراطية، تتيح للفرد أن يشارك ـ بنفسه ـ في اتخاذ القرارات التي تمس حياته، و لا يوكلها لمن ينوب عنه و يتحدّث ـ نظريا ـ باسمه .
السيطرة الراسبوتينية
و ارتبطت الديموقراطية الجديدة، أو ديموقراطية المشاركة، بتحوّل هام في عصر المعلومات، ينهي المركزية السائدة في مؤسسات الحياة الصناعية، و يعظّم الاتجاه إلى اللامركزية في كل جوانب الحياة البشرية . لهذا، فالديموقراطية الجديدة تعني الهبوط بجوهر عملية اتخاذ القرار، من القمّة إلى المستويات التالية، و حتّى القاعدة .
في بدايات كتابه " نهاية التاريخ، و الإنسان الأخير"، يقول فوكوياما " لا نستطيع أن نرسم لأنفسنا عالما يختلف أساسا من العالم الحالي، و هو في نفس الوقت أفضل .." . السؤال الذي يطرح نفسه مباشرة : أفضل لمن ؟ . لمجموعة كبار الأثرياء الذين يقبضون على مصائر البشر في الولايات المتحدة ؟، أم لجماعة الأصوليين المسيحيين و اليهود الذين يشكّلون جماعة المحافظين الجدد التي تسيطر سيطرة ( راسبوتينية ) على الإدارة الأمريكية، و على الرئيس الأمريكي الذي يحاول تغطية صورته السلبية السيئة بالابتسامة الساذجة التي يرسمها على وجهه، و هو يردد توجيهات و أفكار ذلك الوكر الأصولي .
في هذا الزمن، زمن التغيرات الجذرية المتلاحقة، في انتقالنا من نمط عصر الصناعة إلى نمط عصر المعلومات، يجيء فوكوياما ليتكلّم عن " الغياب الكامل لأيّة بدائل معقـولة للديموقراطية الليبرالية "، إلى أن يقول " الشكل الحالي للتنظيم الاجتماعي و السياسي، يعتبر مرضيا تماما للبشر، بالنسبة لأغلب خصائصهم الأساسية " .
* * *
فما الذي حدث في صيف عام 2004، عندما بدأ الانشقاق بين فوكوياما و جماعة المحافظين الجدد .. وكيف تحوّل فوكوياما إلى الانتقاد الحاد لحرب العراق ؟
هذا هو ما سنقرأه في الرسالة القادمة .