الاثنين، مارس ٢٤، ٢٠٠٨

منتدى مستقبل أمريكا

بين الشيزوفرينيا
و الرؤية المستقبلية

تكلمت على مدى ربع قرن، مستنفذا وسائل الإعلام الشخصي و الجماهيري التي أتيحت لي عن مشكلتنا، و عن أهمية سعينا إلى تبنّي رؤية مستقبلية تساعدنا على اللحاق بمجتمع المعلومات الذي تمضي إليه البشرية .... لكنني لم أنجح في إشاعة الوعي المطلوب إلاّ في عدد قليل من أصحاب الاهتمام العام . و السبب هو في صنّاع القرار بالعالم العربي و الإسلامي، الذين يتناقض هذا الوعي مع مصالحهم، و مع بقائهم على كراسي الحكم في بلادهم .. الغريب في الأمر أن غياب الرؤية المستقبلية في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، يدفعها ـ هي أيضا ـ إلى منزلق شديد الخطر، يضرّ بها أكبر الضرر، و من ورائها النظم الحاكمة التي تدور في فلكها
أنا لم أكن أمزح عندما طرحت فكرة " منتدى مستقبل أمريكا "، فالولايات المتحدة تعيش اليوم في مأزق فريد، لا تجد له نظيرا بين الدول المتقدمة أو المتخلّفة .. ليس فقط نتيجة لطبيعة النشأة، أو ترامي الأطراف، أو نتيجة الغرق في الذات، و لا من حيث الفلسفة البرجماتية ( النفعية ) التي قامت عليها التقاليد الأمريكية الانتهازية، و قادت إلى الأكاذيب الكبرى الراسخة في الحياة الأمريكية، و التي تجعل دعوى الشفافية التي تحضّ عليها تبدو مضحكة للغاية .
المأزق الأمريكي ينبع أساسا من انفصام الشخصية أو الشيزوفرانيا .. يأتي من التناقض الحاد بين التقدّم العلمي و التكنولوجي، الذي جمعت له أمريكا العقول من جميع أنحاء العالم، و الذي جعلها تحتل مكانة الريادة في الدخول إلى مجتمع المعلومات، بالنسبة لباقي الدول المتطوّرة ..و بين التخلّف الواضح في حياتها الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية . هذا التناقض هو مصدر الخلل الذي يقود إلى تآكل النفـوذ و المكاسب، و كل ما حققه النظام الأمريكي حتّى الآن .

بين بيل جيتس
و ديك تشيني

أراني هنا مضطرا إلى أن أعود إلى الحديث عن آثار التكنولوجيا على حياة المجتمعات البشرية . لأقول أن شيوع تكنولوجيا ابتكارية كبرى، مثل تكنولوجيا المعلومات، لا يبقى أثره عند تسهيل أمور الحياة العملية و اليومية، بل تقود في مرحلة من مراحل الانتشار إلى تغيير أنظمة الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .. بل و تغيير المبادئ و الأسس و القيم التي تقوم عليها الحياة . و لمن يريد أن يزداد اقتناعا بهذا، أن يحاول رصد أثر الآلة البخارية و من ثم التكنولوجيا الكهروميكانيكية على حياة البشر في مختلف جوانب الحياة، خلال المجتمع الصناعي .
فما الذي حدث في الولايات المتحدة الأمريكية ؟
وقعت في التناقض الكبير، بين الطفرة المعلوماتية، و بين مصالح كبار الأثرياء من تجار السلاح و البترول و المقاولات .. بين بيل جيتس، و ديك تشيني ! .. سعدت الرأسمالية الكبرى بإنجازات تكنولوجيا المعلومات، باعتبارها السبيل إلى المزيد من الأرباح . و في النصف الثاني من القرن الماضي، عندما بدأت التحولات الكبرى المصاحبة لشيوع الاعتماد على تكنولوجيا المعلومات المتطوّرة، أراد كبار أثرياء أمريكا أن يستفيدوا من التكنولوجيا الجديدة، دون أن يسمحوا لآثارها أن تمتد إلى الحياة الأمريكية .. أن يعتمدوا على الكمبيوتر و الإدارة الرقمية و أقمار الاتصال، و باقي التكنولوجيات المعلوماتية، مع الاحتفاظ بمبادئ و أسس و نظم و عقائد عصر الصناعة

سرقة مستقبل شعب أمريكا

في عصر الرئيس الجمهوري ريجان، و من بعده الرئيس بوش الأب، بدأت عملية سرقة منظمة لمستقبل الشعب الأمريكي، مستفيدة من أحلام الانفراد بحكم العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ..و كانت مقولة بوش الأب الشهيرة السابقة لحرب الخليج " .. لقد انتهينا من ترتيب البيت من الداخل، و علينا أن نبدأ ترتيب العالم .. " .
ساعد في سرقة مستقبل الشعب الأمريكي مجموعة من الرجعيين اليهود و المسيحيين الصهيونيين، بقيادة نائب الرئيس الحالي ديك تشيني، أحد أعضاء مجتمع كبار الأثرياء، المتحكّم الحقيقي في شئون أمريكا .. و قد أطلقوا على أنفسهم ـ بكل صراحة ـ اسم " المحافظون الجدد " .. و كانت مهمتهم أن يحافظوا على الأوضاع التي توفّر لهم المزيد من الإثراء، حتّى لو تناقضت مع التطور الطبيعي للمجتمع الأمريكي .
في عام 1997، و في عهد الرئيس كلينتون الديموقراطي، نشطت مجموعة تشيني بشكل منظّم استعدادا للحظة العودة إلى الحكم، و أصدرت " مشروع القرن الأمريكي الجديد "، الذي يقول عنه دافيد آرمسترونج :
" كانت الخطة أن تحكم الولايات المتحدة العالم .. و تمنع أي منافسين من الظهور .. أن تسيطر على الأصدقاء والأعداء معا .. لا أن تكون الولايات المتحدة قـوية، أو أقـوى، بل أن تكون الأقوى على الإطلاق .. و الخطة، قبل أن تكون حول السيطرة، كانت حول المال .."
و عندما اختارت المحكمة العليا جورج دبليو بوش رئيسا عام 2000، أصبحت قبيلة ديك تشيني على كراسي الأحكام ! . و في أحد تقارير القبيلة عام 2000، ما سبق أن أشرت إليه، و هو قولهم فيما يحتاجونه من ظروف استثنائية تتيح لهم تفويت مؤامرتهم على الشعب الأمريكي " ينقصنا بعض الأحداث الكارثية المساعدة .. مثل ( بيرل هاربور ) جديدة " .

و لا أدري :هل بمحض الصدفة،
أم بعمق التدبير،
دث هجوم 11 سبتمبر ؟

هكذا أصبحت الظروف مواتية لفرض مشروعات القبيلة .. و انفتحت شهية كبار صناع السلاح و تجار البترول للحروب التي تسمح بتخصيص المزيد من عشرات مليارات الدولارات من ميزانية الدولة . و نجح تشيني في أن يجمع بين أصابعه خيوط بوش التي انفرد بها، و راح يحرّكه وفق مصالح كبار الأثرياء، والذي يعتبر واحدا منهم .. و بمساعدة وسائل الإعلام القوية التي يمتلكها نفس الأثرياء، تم تخويف الشعب الأمريكي بلا توقّف، بما يسهّل التحكّم في إرادته .. و هكذا استولي كبار الأثرياء على الرئيس الأمريكي، بمساعدة القبيلة المسئولة عن التنظير، و كذلك استولوا على المجلسين النيابيين، و محركات الرأي العام .. لقد حلّت لحظتهم التاريخية .. لقد استولوا على أمريكا بالكامل ! .
لكن الثمن كان فادحا .. و سيكون أكثر فداحة في المستقبل . و بديهي، أن الذي سيدفع الثمن هو الشعب الأمريكي، و شعوب العالم التي دخلت في أول بنود المخطط الجهنمي للسيطرة .
و ماذا بعد ؟ .. الواقع الحالي للولايات المتحدة يفيد أنها في أشد الحاجة إلى الإفاقة من أوهامها، و السعي السـريع لإعادة بناء المجتمع الأمريكي وفقا لمقتضيات مجتمع المعلومـات،حتّى لا تستفحل حالة الانفصام الحالية في المجتمع الأمريكي، و القيام بالتحوّلات الأساسية الضرورية، لتدارك الموقف المتفاقم في النظام الأمريكي

أهم التحوّلات المطلوبة :

أولا : التحول من حكم كبار الأثرياء ( البلوتوكراسي )، إلى ديموقراطية المشاركة الأكثر انسجاما مع متطلبات عصر المعلومات من ديموقراطية التمثيل النيابي . و التي تستفيد من سهولة وصول الجمهور للمعارف، في إرساء نظام يتكفّل فيه المواطن باتخاذ القرار المتّفق مع مصلحته، دون أن ينيب أحد أو يوكّله لهذه المهمة . و هذا يعتمد أيضا على التحوّل التالي .
ثانيا : التحول من المركزية الممعنة الحالية، التي كانت ضرورية في ظل المجتمع الصناعي، إلى اللامركزية التي تنسجم مع التوجّه إلى التنوّع و الاختلاف، الذي تفرضه ثورة المعلومات .
ثالثا : التحوّل إلى اقتصاديات مجتمع المعلومات، و إدراك عدم جدوى النظريات و الممارسات الاقتصادية الرأسمالية النابعة من حاجة عصر الصناعة، للتعامل مع واقع عصر المعلومات . و التفكير في بدائل لأكثر الأمور أساسية في الاقتصاد الصناعي، مثل حق الملكية، الذي يتناقض مع طبيعة المعلومات و المعارف .
رابعا : تحرير عمليات تخصيص الميزانيات من سيطرة تجار السلاح و البترول، و الإسراع بتخصيص الميزانيات المناسبة لإعادة بناء التعليم الأمريكي، و نظم الرعاية الصحية، و الخدمات العامة . و التوقّف عن استخدام التعليم كأداة غسيل مخّ للأجيال الصغيرة، تستكمل بها عمليات غسيل المخ عن طريق الأفلام و ألعاب الكمبيوتر .
خامسا : التوقف عن المحاولات اليائسة للتحكّم في عقل الإنسان الأمريكي، عن طريق وسائل الإعلام و الثقافة العميلة، و إدراك عدم جدوى ذلك حاليا مع تنامي نفوذ الإنترنيت .