أهمية المؤسسة، و معناها
ممّا سبق، يستخلص فوكوياما أن الحكمة المعتمدة الحالية تدفعنا إلى القول بأن المؤسسات هي المتغـير الأهم و الأساسي في التنمية . و خلال السنوات القليلة الماضية، أثبت كم هائل من الدراسات صحّة هذه الحقيقة . و يتساءل فوكوياما قائلا " ما الذي نعنيه حديثا بمصطلح (المؤسسـات ) ؟ " . و يضيف أنه منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، ازدحـم مجال التفكير بعديد من الطـرق و المسـارات المتقاطعة المربكة : الديموقراطية، الفدرالية، اللامركزية، المشاركة، رأس المال الاجتماعي، الثقافة، الجنس، العرق، و الصراعات العرقية .. أضيفت كلها كمكونات إلى وعاء التنمية، لتصنع المذاق النهائي للطبخة .. هل تعتبر جميع هذه المفاهيم من بين أوجه التنمية المؤسسية ؟، و إذا كان الأمر كذلك، فبأيّ طريقة ؟، و هل يكون لها نفس الأولوية ؟، و هل هي متصلة ببعضها البعض ؟، و بأيّ الطرق تسهم في تطوير التنمية ؟ .
لقد طرحت وجهة نظري في الإجابة عن هذه التساؤلات، من خلال الاعتماد على الرؤية المستقبلية الشاملة .. لكن دعونا نرى، كيف سيجيب فوكوياما عن تساؤلاته .
احتياجات المؤسسات
يقول فوكوياما، إذا كان موضوعنا المحوري هو محاولة فهم القدرة المؤسسية، يمكننا أن نبدأ من جانب الاحتياجات .. مع سؤال يقول : ما هي المؤسسات التي تمس الحاجة إليها في عملية التنمية الاقتصادية، و كيف يجب أن يكون تصميمها ؟ . هناك أربعة مظاهر للحكم نحتاج إلى توضيحها :
الصياغة و الإدارة التنظيمية ـ صياغة النظام السياسي ـ أسس الشرعية ـالعوامل الثقافية و البنيوية .
( 1 ) الصياغة و الإدارة التنظيمية :
المستوى الأوّل للصياغة و الإدارة التنظيمية، يتصل بمجال دراسات الإدارة، عند تطبيقها على القطاع الخاص، أو على الإدارة العامة، بمعنى القطاع العام . الإدارة العامة تعتبر حقلا واسعا و متطورا، و تتضمّن العديد من الأنظمة الفرعية . و يناقش فوكوياما في الفصل الثاني من الكتاب، موضوع الإدارة العامة ، و السرّ في عدم إمكان التوصّل إلى نظرية موحّدة بالنسبة للتنظيم .
( 2 ) صياغة النظام السياسي :
المظهر الثاني من مظاهر الحكم، يتّصل بالصياغة المؤسسية، على مستوى الدولة ككلّ، و ليس فقط مستوى الوكالات المختلفة التي تعتمد عليها الدولة في عملها . و هذا الموضوع، يعتمد على مجال معرفي واسع، يلتقي في عديد من النقاط بمجال العلوم السياسية . قبل ثمانينيات القرن الماضي، كان من المألوف القول بأن المؤسسات ليست هي التي يجب أن تحظى بالأهمية الكبرى، أو أنها تتشكّل وفقا للبنيات الفوقية الاقتصادية و الاجتماعية . و الآن، يبدو الوضع مختلفا، فقد عادت للمؤسسة أهميتها في السنوات الأخيرة، من خلال دراسات السياسة المقارنة .
( 3 ) أسس الشرعية :
أسس الشرعية لها صلة وثيقة بتصميم و صياغة النظام السياسي . لا يكفي أن تعمل مؤسسات الدولة مع بعضها متعاونة ككلّ، بالمعنى الإداري، بل يجب أن تكون مقبولة و شرعية من جانب المجتمع المعني. الحكم الجيد، و الديموقراطية، لا يسهل الفصل بينهما . و دولة المؤسسات الجيدة، هي التي تخدم حاجات عملائها ـ أي المواطنين ـ بشـفافية و كفاءة . و يستدرك فوكوياما في هذه النقطة، قائلا أن العلاقة بين الديموقراطية و التنمية تظلّ معقّدة و غامضة، و لا يمكن أن نعتبرها داعمة لأي من الجانبين : التوجّه الشمولي في مجال الإصلاح الاقتصادي، أو التوجّه الديموقراطي، كاستراتيجية تنمية .
( 4 ) العناصر الثقافية و البنيوية :
المظهر الرابع للحكم، و المتصل بالكفاءة المؤسسية، يكون على علاقة كبيرة بالعادات و القيم و الثقافة السائدة، التي تمد المؤسسات بالدعم ، و تسهّل لها عملها . و نحن في العادة، يسهل علينا أن نفكّر في المؤسسات ذات الشكل المنضبط، من ناحية، و كل ما هو غير منضبط أو شكلي من عـادات، و قيم ثقافية من ناحية أخرى، باعتبارهما أمرين منفصلين، مضمونا و منهجا . لكن فوكوياما يرى أن نجاح المؤسسات الصناعية اليابانية، و غيرها من صناعات شرق آسيا، يستمدّ قوّته من التقاليد الثقافية، بل و ربما تقاليد بيروقراطية معيّنة، في حضارة تلك المجتمعات . كما يقول أن الطرق التي تؤثّر بها العادات غير الرسمية على مصالح المؤسسات الرسمية، تتجلّى في علاقة الحكومة بالمنتفعين من نشاطها . و يقول أن الناس الذين تخدم الحكومة مصالحهم، يتولّون مسئولية مراقبة أدائها، و المطالبة باستجابة واضحة لنتائج تلك المراقبة .
المعارف القابلة الانتقال
و يتكلّم فوكوياما بعد ذلك عن الموارد التي تعتمد عليها المؤسسات في نشاطها، فيقول " موارد المؤسسات تتكوّن على الأقل من أربعة مكونات . و من الواضح أن القدر الأكبر من المعارف القابلة للنقل تكمن في المكوّن الأول .. أعني بذلك الإدارة العامة، ثم في صياغة و تصميم و إدارة النظم الخاصّة .على المستوى الصغير هذا، يمكن للنظم أن يجري تصحيحها و تنقيحها، أو هدمها، أو صياغتها من جديد، أو إدارتها للأفضل أو الأسوأ، بطرق تستمد من الخبرة التاريخية لنطاق واسع من الدول " . و يضيف " إلى الحد أن نظرية النظم، أو نظرية الإدارة العامة، يمكن تقنينها، و نقلها من مجال إلى آخر " .
و توجد أيضا معارف قابلة للنقل، في المكونين الثاني و الثالث، أي صياغة و تصميم المؤسسة على مستوى النظم، و بصفة خاصة تصميم النظم السياسية الديموقراطية القابلة للتطبيق . و يشير فوكوياما إلى أن تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، ما بين عامي 1776 و 1789، كان في واقع الأمر، مثل ذلك الجهد الذي يشير إليه، من أجل خلق نظام سياسي ديموقراطي، قائم على أمرين : مبدأ التصميم النظري، و الخبرة المؤسسية لدول أخرى . و يضيف قائلا " كما أن مؤسسات ما بعد الحرب في ألمانيا و اليابان، كانت أيضا نتاج جهد واعي في الصياغة و التصميم .." .
و المورد الرابع من بين مكونات الحكم، يقوم أساسا على العادات و التقاليد و القيم الثقافية . و هذا المكوّن يمكن التعامل معه عن طريق السياسات العامة، بطريقة هامشية فقط . القيم الثقافية، تتشكّل بالتأكيد من خلال التعليم، و القيادة، و تبادل التأثير مع المجتمعات الأخرى . و التغيير في هذا المجال، ينسحب على وقت طويل نسبيا .
و في هذه النقطة، يقول فوكوياما أن نوعية التكنوقراطيين الاقتصاديين، الذين هم على أعلى مستوى، في أمريكا اللاتينية، قد نموا بشكل ملحوظ، بالنسبة للجيل السابق مثلا، كنتيجة لدراستهم في معاهد و جامعات أمريكا الشمالية و أوروبا .
و إلى الرسالة التالية لنرى : ماذا يقول فوكوياما في كتابه الأخير ؟