الأحد، ديسمبر ٠٧، ٢٠٠٨

الكتاب الثاني لفوكوياما


نتيجة عكسية للمعونات

حكم القانون أهم من الخصخصة


و يقول فوكوياما أن ما حدث في أفريقيا الوسطى، في الربع الأخير من القرن العشرين، كان يسمح بأن توصف نظم دول وسط أفريقيا باعتبارها نظم أبوية جديدة ( نيو باتريمونيال )، حيث تستغل فيها السلطة لخدمة فئة من المنتفعين، حول قيادات الدولة . في بعض الأحيان، كما في حالة زائير تحت حكم موبوتو سيسي سيسيكو، حيث قاد ذلك النظام إلى نهب بعض الأفراد جانب كبير من ثروات البلاد، و جرى استخدام القطاع العام للاستيلاء على الملكيات العامة، لحساب عائلة أو قبيلة أو منطقة أو عرق معين .
و يضيف قائلا " الطبيعة المزدوجة لمثل هذه الدول الأفريقية، جعلت المعونات الممنوحة من أجل تحقيق الاستقرار، و تطبيق برامج التكيّف البنيوي، خلال ثمانينيات و تسعينيات القرن الماضي، تقود إلى نتائج عكسية و غير بنّاءة .. و تدهورت بشكل مأساوي ـ على مدى عشرين سنة ـ الاستثمارات في البنية التحتية الأساسية، مثل الطرق و الصحة العامة، و حدث نفس الشيء بالنسبة لاستثمارات التعليم الأولي و الزراعة . و في نفس الوقت، تزايد الإنفاق بشكل دراماتيكي على ما يمكن أن نطلق عليه مصاريف السيادة، مثل القوات العسكرية، و الخدمات الدبلوماسية، و الوظائف المخصصة لمكتب الرئاسة.. " .
و هو يعطي مثالا على ما حدث في كينيا، حيث زاد عدد العاملين في مكتب الرئيس من 18213 موظف عام 1971، إلى 43230 موظف عام 1990 . و يقول أن أحدا من المقرضين الدوليين لم يكن، في أي وقت، يريد أن يصل إلى هذه النتيجة، إلاّ انهم لم يكونوا قادرين على إقامة البنية بطريقة تمنع الوصول إلى هذه النتائج السلبية .
و مع ذلك، فالكثيرين من دعاة " اتفاق واشنطن " يقولون الآن أنّهم (بالتأكيد) كانوا يفهمون أهمية المؤسسات، و حكم القانون، و الترتيب السليم للإصلاحات ! .

الخصخصة في روسيا

ثم ينتقل فوكوياما إلى مناقشة ما حدث في روسيا و باقي الدول الاشتراكية، فيقول أن المشكلة بالنسبة لروسيا و غيرها من الدول الشيوعية سابقا ذات طبيعة مختلفة .
و رغم أن خصخصة المشروعات المملوكة للدولة كانت، بكل تأكيد، هدفا مناسبا للإصلاح الاقتصادي، لكنها كانت تتطلّب لتطبيقها درجة ملموسة من المقدرة المؤسسـية، حتى يمكن وضعـها موضع التنفيذ بشكل جيد . فالخصخصة تخلق، بالضرورة، حالة هائلة من عدم التناسق المعلوماتي، و تكون مهمة الحكومات أن تعمل على تصحيح ذلك . يجب أن يتم تحديد الأصول و حقوق الملكية بشكل دقيق، و تقييمها ماديا، و أن يتم نقلها بشفافية، مع حماية حقوق الأقلية الجديدة من حملة الأسهم، من جميع عمليات التحايل و التزوير .
من هذا، يستخلص فوكوياما أنّه بينما تتضمن الخصخصة خفضا في نطاق وظائف الدولة، فهي تتطلّب في نقس الوقت أسواقا فاعلة و نشطة، و درجة عالية من قدرة الدولة على فرض النظم . و يقول أن هذه القدرة كانت تنقص روسيا، ممّا قاد إلى أن رست العديد من الأصول المخصخصة بعيدا عن أيدي المستثمرين القادرين على جعل هذه الأصول مثمرة .
و هو يورد اعترافا من أكثر أنصار السوق الحرّة تعصبا، ميلتون فريدمان، قال فيه أنه قبل عشر سنوات، كانت لديه ثلاث كلمات للدول التي تتحوّل عن الاشـتراكية، هي " خصخص، خصخص، خصخص "، ثم يستدرك قائلا " لقد كنت مخطئا، لقد تبيّن أن حكم القانون يمكن أن يكون أكثر أهمية من الخصخصة " .

أيّهما أجدى اقتصاديا ؟

ثم يطرح فوكوياما سؤالا هاما : من وجهة نظر الكفاءة الاقتصادية، هل يكون الأهم تخفيض نطاق الدولة، أم زيادة قوّة الدولة ؟ .
توجد أدلة على أن قوة مؤسسات الدولة ـ بشكل عام ـ أكثر أهمية من اتساع نطاق وظائف الدولة و المهام التي تتكفّل بها . و يرى فوكوياما أن السرّ في تفوّق أداء دول شرق آسيا، مقارنة بدول أمريكا اللاتينية، على مدى السنوات الأربعين السابقة، يرجع في الأغلب إلى النوعية المتميزة لمؤسسات الدولة في شرق آسيا، أكثر من أي فروق في نطاق وظائف و مهمات تلك الدول .
و يقول فوكوياما أن الاهتمام بقوّة الدولة، الذي نراه تحت مختلف العناوين، مثل " الحكم "، و " قدرة الدولة "، أو " النوعية المؤسسية "، كنا نراه دائما يتردد حولنا، تحت عناوين مختلفة في اقتصاديات التنمية . و يشير فوكوياما إلى كتاب ( الطريق الآخر ) لمؤلفه هيرناندو دي سوتّو، الذي نجح في تذكير مجتمعات
التنمية بأهمية حقوق الملكية التقليدية، و تذكيرهم ـ بشكل أوسع ـ بفوائد الأداء الجيد للمؤسسات القانونية، في مجال السعي إلى الكفاءة العالية .
لقد أوفد دي سوتو باحثيه إلى عدّة دول، لمعرفة كم يحتاج استصدار تصريح لنشاط اقتصادي صغير من وقت و جهد و مال . في ليما عاصمة بيرو استغرقت العملية 10 شهور، و المرور على 11مكتب، و دفع ما يوازي 1231 دولار . نفس هذه العملية في الولايات المتحدة و كندا تستغرق يومان فقط .

الحكمة المعتمدة الجديدة

لماذا هذا الاهتمام بكتابات فوكوياما، و إصدارات مؤسسة " راند " التابعة للبنتاجون الأمريكي ؟ .. لأن الفكر الذي تحمله هذه المطبوعات ما يلبث أن يطبق علينا في شكل مبادرات من الرئيس بوش، أو تحذيرات وزيرة خارجيته كونداليزا رايس .. و موضوع " بناء الدولة " هو الشغل الشاغل ـ حاليا و مستقبلا ـ للإدارة الأمريكية، و الدول المعنية في هذا السياق : هي أساسا معظم دول العالم الثالث، و بصفة خاصة الدول الإسلامية و العربية ..
يقول فوكوياما أن مجتمع سياسات التنمية يجد نفسه في وضع متناقض .. فمرحلة ما بعد الحرب الباردة كانت بداياتها تحت السيطرة الثقافية لرجال الاقتصاد، الذين تحمّسوا بشدة لليبرالية و الاتجاه إلى الدولة الأصغر . و بعد ذلك بعشر سنوات، طلع علينا العديد من رجال الاقتصاد الذين قالوا بأن من بين المتغيرات الأكثر تأثيرا على التنمية، ما يتصل بالمؤسسات و السياسات، و ليس الاقتصاد بالمرة ! .
و هذا يعني أن بعدا كاملا مفقودا في مسألة الحكم و الدولة، نحتاج إلى استكشافه .. و ركن من أركان التنمية جرى تجاهله من جانب التركيز العقلي الأحادي في مجال الدولة . لقد وجد العديد من الاقتصاديين أنفسهم ينفضون التراب عن الكتب القديمة حول الإدارة العامة، التي تعود إلى خمسين سنة مضت ..أم أنّهم قد سعوا إلى إعادة اكتشاف العجلة لتطوير استراتيجيات مضادة للفساد .
هذا الوضع المتناقض، الذي يشير إليه فوكوياما، يرجع أساسا لقصور في منهج البحث .. يرجع إلى أحادية التناول، الذي يقود إلى مثل هذه الثنائيات : الاقتصاد أوّلا، أم السياسة أوّلا ؟ .. و بالمناسبة قصور المنهج هذا نشهد أمثلة عديدة و متكررة عليه في مصر حاليا، عندما يتناقش المفكرون و السياسيون في الإصلاح . و مرجع ذلك إلى غياب الرؤية المستقبلية الشاملة، القائمة على فهم طبيعة مسار التطوّر في المجتمع العالمي، و الخريطة الفعلية للمجتمع الذي يسعى للإصلاح .
تلك الرؤية هي التي ستتيح التوصّل إلى الاستراتيجية الشاملة المتكاملة، التي تنبع منها الخطط، و تتحدد توقيتاتها .. سنكتشف وقتها أن ما هو مطلوب أوّلا، هو السياسة و الاقتصاد و المجتمع و القيم و المبادئ، جميعا، في إطار الرؤية المستقبلية .

و إلى الرسالة التالية لنستعرض أهمّية المؤسسة، و معناها .

الخميس، أكتوبر ٣٠، ٢٠٠٨

الكتاب الثاني لفوكوياما


التاريخ الحقيقي

ليس سير ملوك و معارك

في الفصل الأوّل من الكتاب، و الذي يحمل عنوان " الأبعاد المفتقدة للحكم "، أدهشني في حديث فوكوياما عن الدولة، أن أراه غارقا في بحث أسباب الظواهر المتصلة يتحوّل طبيعة الدولة، و واقفا عند حد الحروب و الأنظمة و الممالك، دون أن تكون لديه رؤية شاملة واضحة عن التحوّلات التي طرأت على الدولة و الحكم، عند التحوّل من الحياة الزراعية إلى الحياة الصناعية، ثم ما استجدّ بتحولنا إلى مقتضيات عصر المعلومات .
لقد كتبت كثيرا عن غياب الرؤية الشاملة للتحوّلات المجتمعية، في كتاباتنا عن التحولات التي تطرأ على الدولة، و السيادة، و التعليم، و الإدارة، و الاقتصاد، و الإعلام، و الأسرة .. بل التي تطرأ على القيم و المبادئ و الأخلاق و العقائد . لكنّى لم أكن أتصوّر أن تغيب هذه الرؤية عن أستاذ جامعي مثل فوكوياما، ذاع صيته في الغرب و الشرق . لكي نفهم هذا، دعونا نستعرض ما قاله في الفصل الأوّل بعنوان " الخلاف حول دور الدولة " .
يقول فوكوياما أن السياسة تشكّلت على مدى القرن العشرين، من خلال الجدل حول الحجم و القوّة المناسبين للدولة . كان حجم نشاط الدولة، فيما عدا النشاط العسكري، محدودا .. في بدايات القرن لم تكن هناك ضرائب دخل، أو برامج لمكافحة الفقر، أو قواعد لسلامة الغذاء . و مع تقدّم القرن، و من خلال الحروب، و الثورات، و نوبات الكساد، ثم الحرب ثانية، اختلط النظام الليبرالي للعالم، و حل محل دولة الحد الأدنى الليبرالية، في معظم أنحاء العالم، أنماط من الدول أكثر مركزية و نشاطا .
الذي لم ينتبه له فوكوياما، نتيجة لغياب الرؤية الشاملة لتطور الأسس المجتمعية خلال القرن العشرين، هو أن التحولات التي يحكي عنها، و خاصة شيوع المركزية الممعنة في كل شيء، هو أحد أهم المبادئ التي قام عليها العصر الصناعي . و أن القرن العشرين شهد في معظمه السيطرة القوية لمبادئ عصر الصناعة، كما شهد في نهاياته اهتزاز تلك المبادئ، و تشكّل بدايات مبادئ عصر المعلومات .
و من هنا، فلا معنى لمحاولة التمييز بين الدول الرأسمالية الليبرالية، و الاشتراكية الشمولية، لأن البنية الأساسية في كل من النظامين واحدة، و خاضعة لمقتضيات طبيعة العمل و الإنتاج و النشاط الاقتصادي في المجتمع الصناعي . جميع الدول الصناعية، سواء كانت رأسمالية أم اشتراكية، ليبرالية أم شـمولية، عمدت خلال عصر الصناعة إلى ترتيب حياتها وفق نظم تقوم أساسا على مبادئ محددة، من بينها المركزية الممعنة، التي يلاحظ فوكوياما سيادتها في القرن العشرين، قرن نضوج المجتمع الصناعي، و بدايات اهتزازه نتيجة لاندفاع ثورة المعلومات .

الدولة و مبادئ عصر الصناعة

المبادئ الأساسية التي نبعت من طبيعة العمل الصناعي، و اقتضتها مصالح الاقتصاد الصناعي، سنجدها بنفس القوّة تقريبا في جميع الدول الصناعية، مهما اختلفت تصنيفاتها . و أهم هذه المبادئ :
• النمطية، و التوحيد القياسي لكل شيء . و هو المبدأ الذي نبع من طبيعة النشاط الصناعي، ثم انسحب على كلّ شيء، حتّى على البشر . و ساعدت وسائل الإعلام الجماهيري، في الغرب و الشرق على تكريسه .
• التخصص، بعد انسحاب الحياة الزراعية، أصبح عنصرا مشتركا في البلاد الاشتراكية و الرأسمالية معا، فظهرت موجة صاعدة من الإخصائيين الذين يتحكّمون في مكل نشاط .
• التركيز، بعد انفصال الإنتاج على نطاق واسع، عن التوزيع و الاستهلاك على نطاق واسع، ظهرت السوق كوسيط، و ساد مبدأ التركيز . تركيز السكن في المدن و قريبا من مراكز الإنتاج الصناعي، و تركيز التلاميذ في المدارس، و المرضى في المستشفيات .. و أيضا تركيز رؤوس الأموال في شركات و احتكارات كبرى .
• المركزية، وقد سعت جميع الدول الصناعية إلى تطويرها . و قد جرى خلق أشكال جديدة من التنظيم مبنية على مركزية المعلومات و القرارات . و هكذا ظهرت مركزية السياسة، فوضعت جميع مفاتيح القوّة في يد واشنطن و موسكو و نظائرهما، و احتكرت هذه المراكز الكبرى سلطة اتخاذ القرار المركزي، و انتقلت السلطة الفعلية من الكيان القضائي و التشريعي، إلى أكثر السلطات الثلاث مركزية : الأجهزة التنفيذية .
هذه هي المبادئ التي سادت معظم القرن العشرين، و بدأت تهتز قوائمها في نهايته، مع اندفاع ثورة المعلومات .

تاتشر و ريجان

و نتيجة لغياب الرؤية الشاملة لطبيعة ما جرى في القرن العشرين، يميل فوكوياما إلى تحليل و شرح الأوضاع، عن طريق ربطها بشخصيات و أحداث جزئية . على سبيل المثال يقول عن نمو الدولة و تضخّمها في ثمانينيات و تسعينيات القرن الماضي " هذا النمو، و ما ترتّب عليه من عدم كفاءة و عدم تقدير للعواقب، قاد إلى ردود فعل عنيفة، على صورة (التاتشرية )، و ( الريجانية ) " . و هو لا ينتبه إلى القوّة المحرّكة الأساسية في هذين العقدين، و التي هي الاندفاع الشديد لثـورة المعلومات، و ما فعلته تكنولوجيات المعلومات المتطوّرة، من تغيرات متلاحقة اهتزّ لا النظام المركزي التقليدي، و حكومته المركزية، و بدأت ردود الفعل الطبيعية، في محاولات تخلّص الدولة من ترهّلها، بتحجيم كياناتها، و تطبيق اللامركزية في مؤسساتها .
الذي نعنيه أن التغيّرات الجذرية المصاحبة لبدايات عصر المعلومات، فرضت شكلا جديدا للدولة و لطبيعة الممارسات السياسية، تختلف عن نظائرها على مدى قرنين سابقين من عصر الصناعة . و كلن لتلك التغييرات الأثر الأكبر على الدول الشمولية، التي توالت انهياراتها بمعدلات أسرع من الدول التي لم تكن تأخذ يتلك المركزية الممعنة .
ثم يتكلّم فوكوياما عن جهد المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي، و البنك الدولي، و كذلك جهود الحكومة الأمريكية، التي تمخّضت عن مجموعة معايير تهدف إلى تخفيض درجة تدخّل حكومات الدول النامية في الشئون الاقتصادية، ضمن جهود هذه المؤسسات لإعادة بناء تلك الدول على أساس سليم و معاصر .
و يبدي فوكوياما اندهاشه من الهجـوم الذي ووجهت به هذه الجهود و المحاولات، خاصّـة في بداية القرن الحالي، ليس فقط من المعارضين لجهود العولمة، و لكن أيضا من النقّاد الأكاديميين، أصحاب المكانة العالية في مجال الاقتصاد .
و يحاول فوكوياما أن يدافع عن تلك المؤسسات، التي يراها الكثيرون ذات أهداف خفية مدمّرة للدول التي تتورّط في التعامل معها، بأن العيب يكمن في القطاع الحكومي لتلك الدول الذي يعوق نموّها .

مؤامرات البنك و الصندوق

و لا أجد ردا على هذا، أكثر إقناعا ممّا اعترف به جون بيركينز، الذي عمل ضمن خطط وكالة الأمن الوطني الاستخبارية، لبناء الإمبراطورية الأمريكية، في وظيفة " قنّاص اقتصادي" .. كان عليه أن يقرض الدول النامية قروضا هائلة، أكبر من أن تستطيع سدادها، و " كان على تلك الدولة أن تعيد 90% من القرض إلى شركة أو شركات أمريكية ( هاليبورتن أو بيكتيل مثلا)، لإنشاء مشروعات بنية تحتية . و كانت تلك المشروعات لا تفيد سوى قلّة من العائلات الأكثر ثراء في تلك البلاد ..كانت الدولة تدفع نصف دخلها القومي لتغطية الدين، و عندما تعجز عن الدفع، تستولي الولايات المتحدة على ما تطمع فيه من موارد تلك الدولة، كالبترول و الغاز .. و تصبح الدولة عبدة للإمبراطورية الأمريكية " .
و يقول بيركينز أن عمل القناص الاقتصادي لصيق جدا بالبنك الدولي، و صندوق النقد الدولي، اللذين يوفّران معظم الأموال .. لتوريط الدول و ليس لمساعدتها على بناء ذاتها .

أيهما أنفع للدولة : اتّساع نشاطها، أم قوّة مؤسساتها ؟

يطرح فوكوياما سؤالا هاما : أيهما أنفع و أجدى للدولة و لاقتصادها، أن يتّسع نطاق نشاطاتها، و تتعدّد الوظائف التي تقوم بها، و تتزايد الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، أم أن تتدعّم سلطة الدولة و سيطرتها، و قدرتها على التخطيط و التطبيق و فرض القوانين بأمانة و شفافية، أو ما يطلق عليه فوكوياما تعبير (القدرة المؤسسية للدولة) .
و كمثال تطبيقي على هذا، يقول أن الولايات المتحدة دولة أقل اتساعا في نطاق نشاطاتها من فرنسا أو اليابان . و لكن من ناحية أخرى، تعتمد الولايات المتحدة على نمط أعلى من البيروقراطية، قياسا على العديد من الدول النامية .
و يقول فوكوياما " يجب أن يكون واضحا، إمكان تحرّك الدول، و تغيير موقعها، بالنسبة للحدين المشار إليها، اتساع نطاق النشاط، و القوة المؤسسية .. " . و يضيف أن فوائد هذا التصوّر، هو توضيحه لطبيعة التغيير الديناميكية في الحكم . فالاتحاد السوفييتي السابق، تحوّل من دولة ذات نطاق متّسع للغاية في نشاطاتها ( مثال ذلك حظر الملكية الخاصة )، و ذات قوّة متوسطة في قدراتها الإدارية، إلى دولة أقل نطاقا بكثير في وظائفها، و في نفس الوقت على المستوى الأقل بالنسبة لقوّتها المؤسسية .
و يضيف أن أجندة التنمية لدى الكثير من المؤسسات المالية الدولية تحوّلت بشكل مؤثّر خلال التسعينيات من القرن الماضي . و هو يشير هنا إلى ما يطلق عليه " اتفاق واشـنطن "، و الذي كان عبارة عن مجموعة معايير سياسة اقتصادية، كاملة و معقولة، استهدفت في تصميمها أن تقود الدول في اتجاه خفض تعرفة الحماية، و المضي في الخصخصة، و الإقلال من النظم المقيّدة.. إلى آخر ذلك .
و هو يشرح هذا قائلا أنه لا ضرورة تحتّم على حكومة البرازيل إنشاء مصانع للصلب، و لا أن تسعى حكومة الأرجنتين إلى صناعة سيارات محلية . و في العديد من الحالات، كانت النصيحة التي توجّه إلى الدول التي تبدأ دخولها إلى السوق، هي أن تتحرّك بأسرع ما تطيق، تجاه الدولة ذات النطاق الأصغر .
مشكلة العديد من الدول، أنّه خلال عملية تضييق نطاق نشاط الدولة، أنها إمّا أن تقلل من قوة و سلطة الدولة، أو تولّد الحاجة إلى أنماط جديدة من قدرات الدولة، و التي تكون إمّا ضعيفة أو غير موجودة . فالتقشّف الذي تتطلّبه سياسات تحقيق التوازن و إعادة البناء، يتحوّل في بعض الدول إلى مبرر لتخفيض قدرات الدولة .

و إلى الرسالة التالية، لنرى النتيجة العكسية للمعونات

الأحد، أكتوبر ٠٥، ٢٠٠٨

أمريكا ..كيف تفكّر فينا ؟

الكتاب لثاني لفوكوياما

ضعف الدول النامية

يهدد الاستقرار العالمي

الكتاب الجديد لفرانسيس فوكوياما يحمل عنوان " بنـاء الدول : الحكم و النظام العالمي في القرن 21 " . جاء هذا الكتاب بعد كتابه الشهير، و المثير للجدل " نهاية التاريخ "، و بعد حدث هام آخر، هو تمرّده على جماعة المحافظين الجدد، التي تسيطر على الإدارة الأمريكية حاليا، و التي كانت قد تبنّت فوكوياما بعد ظهور الأفكار الأولى لنهاية التاريخ في مقال، نشر في مجلتهم " الاهتمامات القومية " .. لقد تكلمنا من قبل عن الكتاب الأول، و في قراءتنا للكتاب الجديد، نحاول أن نرى إذا ما كانت منطلقاته السابقة، ما زالت كما هي، أم أصابها شيء من التغيير ؟ .
عن الكتاب، يقول فوكوياما في مقدمته، أنه يتكوّن من ثلاثة أجزاء رئيسية:
الجزء الأول يطرح إطار تحليلي يساعد على فهم الأبعاد المتعددة لكيان الدولة، و يعني بذلك وظائف الحكومة، و قدراتها، و أسس شرعيتها . و هذا الإطار، يشرح لماذا تكون الحكومات ضعيفة للغاية في معظم الدول النامية .
و الجزء الثاني من الكتاب ينظر في أسباب ضعف الدولة، و بصفة خاصّة، لماذا لا يوجد علم للإدارة العامة، رغم الجهود الحديثة من جانب الاقتصاديين لإرساء أسس مثل هذا العلم . هذا النقص، يحدّ بشدة من قدرات من يسعون لمساعدة هذه الدول على تقوية حكوماتها من خارجها .
أمّا الجزء الثالث و الأخير، فيناقش الأبعاد الدولية لضعف الدول: و كيف أن هذا الضعف تنتج عنه حالة عامة من عدم الاستقرار، و كيف أن ضعف قدرة بعض الدول قاد إلى تآكل مبدأ السيادة في النظام العالمي، و كيف أن التساؤلات حول الشرعية الديموقراطية قد سيطرت على الجدل الدائر ـ على المستوى العالمي ـ بين الولايات المتحدة، و أوروبا، و غيرهما من الدول المتطوّرة في النظام العالمي .

الديموقراطية الجزئية

و الحقيقة، أنني لا أتصور أستاذا جامعيا مثل فوكوياما، لا يعرف طبيعة التحوّل في سيادة الدول، نتيجة لانتقالنا من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات .
الدول النامية الضعيفة التي يتكلّم عنها فوكوياما، ليس لها دور في التغيّر الحادث في مجال سيادة الدول، و بالتحديد سيادة الدول الصناعية الكبرى، التي تمتعت بها طوال عصر الصناعة . لقد كان عصر الصناعة هو عصر سيادة الدول، و عصر رسم الخرائط الجغرافية الدقيقة، الأمر الذي لم تكن له كلّ هذه الأهمية خلال عصر الزراعة الذي امتد إلى عشرة آلاف سنة .
و سيادة الدولة، كما قلنا من قبل، تتأثّر منذ بدايات عصر المعلومات بتطورين أساسيين .
التطور الأول، يتّصل بانقضاء صلاحية ديموقراطية التمثيل النيابي التي ابتكرها رجال الصناعة الأوائل، لتساعد على مواجهة أعباء اتخاذ القرارات المتزايدة الكم، نتيجة لكون الحياة أصبحت أكثر تركيبا، و نتيجة انفصال الإنتاج على نطاق واسع عن الاستهلاك على نطاق واسع ممّا استوجب ظهور السوق بمعناها المعاصر، و أيضا نتيجة لظهور مؤسسات جديدة نابت عن الأسرة في القيام بالواجبات التي كانت تتكفّل بها طوال عصر الزراعة .. ظهرت الديموقراطية النيابية الحالية، التي تعتبر بجميع المقاييس ديموقراطية جزئية، نتيجة لعجز كيان صناعة القرار، حتّى مع التوسّع الكبير فيه بعد انضمام الصفوة الجديدة، عن تحمّل عبء اتخاذ القرار .
تآكل السيادة، لحساب من ؟
و مع بدايات دخولنا إلى عصر المعلومات، في منتصف القرن الماضي، بدا واضحا تناقض ذلك الشكل الديموقراطي مع طبيعة و احتياجات عصر المعلومات . و كان الحل ـ الذي يتّفق أيضا مع التحوّل من المركزية الممعنة إلى اللامركزية ـ هو إعادة توزيع عبء اتخاذ القرار، بحيث تهبط النسبة العظمى من القرارات، إلى ما دون القمّة من مستويات، بلوغا إلى القواعد .. و هذا شرط أساسي لديموقراطية المشاركة التي تنسجم مع طبيعة مجتمع المعلومات . و هو يعني فقدان الدولة لجانب عظيم من سلطة اتخاذ القرار لحساب المستويات القاعدية و الفئوية، ممّا يعني فقدانها لجانب كبير من سيادتها التقليدية .
أمّا الجانب الآخر الذي ستفقد فيه الدولة سيادتها، فسيكون لحساب المؤسسات العالمية بمختلف أنواعها، الاقتصادية و القانونية و الاجتماعية و السياسية .

الأبعاد المفقودة للدولة

يقول فوكوياما في فصل بعنوان " الأبعاد المفقودة للدولة "، أن الدولة مؤسسة إنسانية قديمة، يرجع تاريخها إلى عشرة آلاف سنة، بداية المجتمعات الزراعية الأولى . و الدولة، أصبح لها الآن العديد من الوظائف . و نفس قوّة الإكراه و القصر التي أتيحت لها من أجل حماية حق الملكية، استخدمتها في وضع اليد على أملاك المواطنين، و انتهاك حقوق المواطنين . و لهذا، أصبحت مهمة النشاط السياسي المعاصر محاولة استئناس قوّة الدولة .
و هو يقول أن الدولة الحديثة، ليست هي النمط السائد في المجتمعات البشرية، كما في حال الشعوب التي كانت تحت الاستعمار . و يضيف أن انحسار الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، قاد إلى حركة نشطة في بناء الدول على امتداد العالم النامي .. نجحت في بعض الدول كالهند و الصين، و تحققت بالاسم فقط في العديد من دول أفريقيا و آسيا و الشرق الأوسط .
و يضيف أن " مشكلة الدول الضعيفة، و حاجتها إلى إعادة بناء، كانت قائمة لعدة سنوات، لكن هجوم 11 سبتمبر جعل هذه الحاجة أكثر وضوحا . و الفقر ليس هو السبب الأعظم للإرهاب . فالذين نظّموا الهجوم على مركز التجارة العالمي و البنتاجون في ذلك التاريخ، كانوا من خلفيات طبقة متوسطة، و اكتسبوا أصوليتهم، ليس في بلدانهم، و لكن في دول أوروبا الغربية .." .

تجاهل السياق التاريخي

يحاول فوكوياما أن يفسر جانبا من إشكاليات الدول النامية في تعاملها مع الدول المتطوّرة، مغفلا جذور الأوضاع التي خلقت التناقض المبدئي بين الجانبين، و هو أن الدول الصناعية الكبرى، و لعقود طويلة، استعمرت الدول غير الصناعية التي يمكن استغلالها في تحقيق فوائد للدول الصناعية الكبرى، سواء في وضع اليد على المواد الخام و الطاقة التي بها، أو الاعتماد على عمالتها المتخلّفة في خفض نفقات إنتاجها الصناعي، ممّا يحقق لها موقفا تنافسيا أفضل مع نظيراتها، بالإضافة إلى الاعتماد على هذه الدول المستعمرة كسوق لتوزيع إنتاج مصانعها .
ينسى فوكوياما ، و غيره، أن الدول الصناعية الكبرى راجت و ازدهرت حياتها وثقافتها على حساب هذه الدول التي استعمرتها، و التي كانت لها ـ في أغلب الأحيان ـ ثقافة و حضارة عظيمة، استفادت منها الدول الصناعية ـ ذاتها ـ في الخروج من ظلمات عصر النهضة إلى عصور التنوير و النهضة المادية الحديثة .. ينسى هذا، و يتكلم عن الدول الضعيفة التي استنزفها عصر الصناعة، كفئران تجارب في معامل الفكر الغربي الحالي .

معاودة الخلط التاريخي

يقول فوكوياما في كتابه الجديد " بناء الدول "، أن هجمات 11 سبتمبر قد لفتت النظر إلى مشكلة محورية أمام الغرب، يصوّرها كالتالي " العالم العصري يقدّم حزمة مغرية للغاية، جامعا بين الرواج المادي لاقتصاديات السوق، و الحرية السياسية و الثقافية للديموقراطية الليبرالية . و هي حزمة يتطلّع إليها العديد من البشر في العالم، الأمر الذي يثبته التدفق الكبير للمهاجرين في اتجاه واحد، من الدول الأقل نموا، إلى الدول الأكثر نموا .." . لكنه يستدرك قائلا أن حداثة الغرب الليبرالي يكون من الصعب التوصّل إليها بالنسبة للعديد من المجتمعات في أنحاء العالم .. إلى أن يقول " حقيقة أن الحكومات الغربية، و وكالات التنمية متعددة الجنسيات، لم تستطع أن تقدّم الكثير في مجال النصيحة أو المساعدة المفيدة للدول النامية، تحد من الأهداف العالية التي تسعى لتحقيقها .." .

* * *

هنا، كما في أجزاء أخرى من الكتاب، يتغافل فوكوياما عن الحقيقة التي لن أملّ من تكرار ترديدها، و هي أن الاقتراب من أي مجتمع يجب أن يكون وفق فهم الأسس المجتمعية التي حققها نمط التكنولوجيا السائدة في مجال العمل، و طبيعة النظم القائمة عليها .
و إلى الرسالة التالية، لنوالي استعراض الجديد في الكتاب الثاني لفوكوياما .

الخميس، سبتمبر ١٨، ٢٠٠٨

أمريكا ..كيف تفكّر فينا ؟

الكتاب الثاني لفوكوياما

و ما بعد رفع راية العصيان

في صيف عام 2004، نشرت مجلة " الاهتمامات القومية "، المعبّرة عن فكر المحافظين الجدد في أمريكا، مقالا من 12 صفحة، يتضمن هجوما بقلم فرانسيس فوكويامـا على زميله في جماعة المحافظين الجدد تشارلز كراوتهامر، أكبر المتحمسين لحرب العراق . لقد انقلب النجم الصاعد فوكوياما على إجماع الجماعة، و انتقد حرب العراق بشدة، و تمنّى عدم فوز جورج بوش بولاية ثانية، أثناء معركة الرئاسة .
بعد رفع راية العصيان هذه، انهمك فوكوياما في إكمال كتابه التالي ( بناء الدول – الحكم و النظام العالمي في القرن 21 )، الذي ظهر في نهاية عام 2004 .
لقد حاولت أن أرى ملامح خريطة التحوّل الذي حدث في فكر فوكوياما، ما بين نهاية التاريخ و بناء الدول، خاصة بعد تملّصه من قبضة العصبة الرجعية الأمريكية .
و الحق، أنه من مقدمة الكتاب حتّى نهايته، وجدت أن فوكوياما قد فقد جوهر كتاب نهاية التاريخ، أعني بذلك اللعب بالألفاظ و التعبيرات، و راح يتخبّط بين حسابات الماضي و الحاضر و المستقبل . و لكن عندما يقع الكتاب بين يدي القارئ الجيد الذي يستطيع أن يفكّ شفرته، ستكتشف أن فوكوياما ما زال يحتفظ بمكانه وسط باقة المحافظين الجدد، و أن الكتاب هو محاولة أخرى لتبرير كل الأفكار السخيفة، و الممارسات غير العادلة أو المنطقية، التي تميز الإدارة الأمريكية الحالية .

الإيدز .. و الحكومة القويّة

على عكس ما وصل إليه عقلاء المفكرين المستقبليين في العالم، من أن المستقبل ـ و بالتحديد في مجتمع المعلومات ـ تفقد الدولة سيطرتها من جانبين .. مرّة لحساب الشعب، و من خلال المشاركة الفعلية للبشر على مختلف مستوياتهم في صنع القرارات التي تمس حياتهم، بأنفسـهم و دون إنابة أو توكيل .. و مرّة أخرى نتيجة استقطاع المؤسسات و الكيانات العالمية لجانب كبير من سلطة و سيادة الحكومة المحلية .. على عكس هذا، ينادي فوكوياما بالحكومة القوية القادرة المتحكمة، متحدثا عن بناء الدول، وخلق مؤسسات حكومية جديدة، و تقوية الحكومات القائمة، باعتبار ذلك أهم الأهداف في عالمنا، باعتبار أن الدول الضعيفة هي مصدر العديد من مشاكل العالم الجادة، كالإيدز و المخدرات و الإرهاب .
و يسعى فوكوياما إلى تعديل المسار الحالي في تطوّر المجتمع البشري، و القاضي بالحدّ من نفوذ الدولة، أو تقليص صلاحياتها، محاولا تعطيل تحوّل في صميم احتياجـات عصر المعلومات . و هو يقول " التوجّه السائد في السياسة العالمية، كان ـ على امتداد الجيل الماضي ـ انتقاد ( الحكومة الكبيرة )، و محاولة نقل أوجه نشاط من القطاع الحكومي إلى السوق الحرّة، أو إلى المجتمع المدني . لكن بصفة خاصّة في العالم النامي، تعتبر الحكومة الضعيفة، أو غير القادرة، أو المفتقدة، مصدرا للمشاكل الحادّة ." . و هو يطرح بالتفصيل مسألة الانتشار الوبائي لمرض الإيدز في أفريقيا . و لا يرى أن فقر البشر و الحكومات جاء نتيجة لعمر طويل من الاستنزاف الاستعماري، بل يصر على العكس من ذلك أن السرّ في هذا هو عدم قدرة الحكومات على تطبيق البرامج الصحية ..فحتّى لو توفّرت الموارد، فهناك غياب القدرة المؤسسية على التعامل مع المرض، في العديد من الدول الأفريقية .

إذا عرف السبب

و هو لا يخفي الدافع الحقيقي الذي جعله يهتم بحال هذه الدول الفقيرة، ذات الحكومات الضعيفة، فيقول أن " نقص قدرة الدولة في البلاد الفقيرة، أصبح مصدر قلق للعالم المتطور بشكل مباشر ..". و هذه الصراحة أفضل من الادعاءات التقليدية بالسعي إلى إسعاد العالم النامي .
ثم يقول " لقد خلّفت نهاية الحرب الباردة حزاما من الدول العاجزة أو الضعيفة، يمتد من البلقان، عبر القوقاز، و الشرق الأوسط، و آسيا الوسطى، و جنوب آسيا . و انهيار الدولة أو ضعفها، قاد بالفعل إلى كوارث إنسانية كبرى و في مجال حقوق الإنسان، خلال تسعينيات القرن الماضي، في الصومال، و هاييتي، و كمبوديا، و بوسنيا، و كوسوفو، و تيمور الشرقية . لبعض الوقت، كان بإمكان الولايات المتحدة و دول أخرى إدّعاء أن هذه كانت مجرّد مشاكل محلية، غير أن 11 سبتمبر أثبت أن ضعف الدولة ينطوي على تحد استراتيجي هائل، في نفس الوقت . إرهاب الأصولية الإسلامية، إذا اجتمع مع القدرة على الوصول إلى أسلحة الدمـار الشامل، يضيف بعدا أمنيا رئيسـيا لعبء المشاكل التي يخلقها الحكم الضعيف .. " .
هذا المنطق الذي يستهل به فوكوياما كتابه الجديد يستوجب مناقشة لأساسه و تفاصيله . لقد كانت الولايات المتحدة سعيدة غاية السعادة بالدول الضعيفة، و بالقيادات الدكتاتورية في نفس الوقت، طالما أنها تعتمد عليها جميعا في تطبيق سياساتها، و تحقيق المنافع الاستراتيجية التي تتوزّع على خريطة العالم .
و حجّة 11 سبتمبر التي يعلّق عليها كل ما لا يمكن تبريره من أفعال قبيحة، تحتاج إلى مناقشة أساسية .. فسياسات الولايات المتحدة في المنطقة، سواء في صراعها مع الاتحاد السوفييتي، أو في تأليبها للنظم الحاكمة، و إشعال الفتن بين مختلف الدول، و داخل كل دولة، لا يمكن أن يعتبر سرّا، و أدبيات مؤسسة راند التابعة للبنتاجون، تحكي بكل صراحة تفاصيل جهود أجهزة الاستخبار الأمريكية، و محاولات الاغتيال التي سعت إليها، لإحداث الفتن في بعض المناطق .
هذه ليست افتراءات، و لكنها جانب من الحقيقة التي تعترف بها أمريكا . هذا النشاط المشبوه ، منذ أيام الاتحاد السوفييتي، هو الذي قاد إلى النتائج التي تزعم الولايات المتحدة أنها تتحرّك الآن لمواجهتها و إصلاحها، و ليس ضعف هذه الحكومة، أو سقوط تلك .. و 11 سبتمبر ـ إذا أثبتت الأيام أنّه كان بتحريض من جماعة المحافظين الجدد، أو لم تثبت ـ هو الحصيلة الطبيعية للمطامع الأمريكية الواسعة، البترولية و العسكرية، في جميع أنحاء العالم .

حزام الفقر .. مسئولية من ؟

حزام الفقر هذا الذي يتحدّث عنه فوكوياما، باعتباره عورة من عورات البشرية، هو مسئولية الدول الصناعية، و الاقتصاد الصناعي الذي كان الاستعمار العسكري عنصرا أصيلا في تكوينه، كأداة لتحسين الموقف التنافسي للدول الصناعية . ثم هو بعد ذلك مسئولية الإمبريالية الأمريكية التي ورثت الاستعمار الصناعي، و حاولت تغطية استغلالها للشعوب الأخرى بدعاوى كثيرة، و أجهزة و مسميات مختلفة، انكشفت جميعها عندما أسفرت الرجعية الجديدة عن وجهها في عهد دميتها الجديدة جورج دبليو بوش .
هذه الحكومات الضعيفة، و الشعوب البائسة، هي النتيجة الطبيعية للطمع الأمريكي، الذي هو سبب ما نحن فيه حاليا، و ليس 11 سبتمبر .. بل أن 11 سبتمبر، و اندلاع حروب الإرهاب، هو أيضا نتيجة من نتائج ذلك الطمع، الذي تدعّم بالطمع الصهيوني الإسرائيلي :
• الأصولية الرائدة في عصرنا هذا، كانت الأصولية اليهودية . و لأسباب جغرافية متصلة بالمخطط الصهيوني، تفاعلت مع المجتمعات الإسلامية، التي كانت أول من تلقّى ضربة ( تسونامي ) اليهودي، فظهرت و قويت ـ بالعلاقات الجدلية ـ الأصولية الإسلامية .. و كان من الطبيعي أن تظهر الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، نتيجة للتناقضات التي تسود المجتمع الأمريكي، و انفصام الشخصية الذي نتج عن التطور العلمي و التكنولوجي المعلوماتي العظيم، و التخلّف الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي عن مقتضيات عصر المعلومات .
• لقد زرعت الولايات المتحدة بذور الإرهاب الإسلامي، في حربها لطرد السوفييت من أفغانستان، فدرّبت و سلّحت المقاتلين الذين قادوا بعد ذلك العمليات الإرهـابية في العالم، و العلم العربي خاصّة . لقد أنشأت خطّا ساخنا من العالم العربي و الإسلامي، إلى ضواحي لندن للتحضير النظري و الفرز، ثم إلى الولايات المتحدة للتدريب على الأسلحة الحديثة، و أخيرا العودة إلى أرض أفغانستان .
• و قبل هذا و ذاك، خضعت دول حزام الفقر و الضعف هذه، التي يشير إليها فوكوياما، لاستعمار الدول الصناعية الكبرى، منذ بدايات عصر الصناعة . و قام رخاء و تقدّم و تحضّر تلك الدول على حساب فقر و جهل و مرض الشعوب التي خضعت لذلك الاستعمار . لقد حققت الدول الصناعية من خلال الاستعمار أهدافها الثلاثية : الاستيلاء على موارد الشعوب المستعمرة من مصادر طاقة و مواد أولية، و الاستفادة من هذه الشعوب كمصدر للعمالة الرخيصة، و استغلال الدول المستعمرة كأسواق لبضائعها و منتجاتها .

* * *

بقي أن نعرف ما تغيّر في أفكار و توجّهات فرانسيس فوكوياما، في كتابه الجديد " بناء الدول ـ الحكم و النظام العالمي في القرن 21 " .

الاثنين، أغسطس ٢٥، ٢٠٠٨

أمريكا ..كيف تفكّر فينا ؟

الاجتراء على المستقبل

أمريكا .. في بداية التاريخ !

عندما يقول فوكوياما أن الديموقراطية الليبرالية ـ سواء كانت متحققة في الولايات المتحدة أم لا ـ هي نهاية التطوّر الأيديولوجي للبشر، يقع قي خطأ سـاذج يثير السخرية، أكثر ممّا يحفز الإنسان للرد عليه .. كيف يخطر ببال بشر أن يقول بنهاية أي شيء في حياة البشر ؟ . و مرّة أخرى، كيف يغيـب عن فوكوياما سياق التطوّر البشـري، و العلاقة التاريخية بين طبيعـة الأسس المجتمعية في حياة البشـر و بين التكنولوجيا الأساسية السائدة في المجتمع ؟ .. و كيف لم يفهم أن التكنولوجيا الأساسية السائدة، و الأسس المجتمعية النابعة منها، هي التي تحدد طبيعة النظم في المجتمع، و التي من بينها نظام الممارسة السياسية ؟ .
ألم يصل إلى علم فوكوياما ما قاله المفكّر الياباني المستقبلي، و أحد قادة التحوّل المعلوماتي في اليابان، يونيجي ماسودا، و الذي وضّح مراحل تأثير التكنولوجيا الابتكارية ( كالآلة البخارية بالنسبة لعصر الصناعة، و الكمبيوتر بالنسبة لعصر المعلومات)، على النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية في مجتمع ما، على الصورة التالية :
المرحلة الأولى : و فيها تقوم هذه التكنولوجيا بنفس العمل الذي كان الإنسان يقوم به سابقا .
المرحلة الثانية : و فيها توفّر هذه التكنولوجيا إمكانيات في العمل، لم يكن بإمكان الإنسان أن يقوم بها في أي وقت، لا في الماضي و لا في الحاضر و لا في المستقبل .
المرحلة الثالثة : بناء على ما سبق، تتحوّل البنية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية القائمة، إلى نظم اجتماعية و اقتصادية و سياسية جديدة .

بل أمريكا في بدايته

قبل أن يسعى إلى تقنين النوايا الاستعمارية الحالية للإدارة الأمريكية، على فوكوياما أن يتأمّل أوضاع أمريكا الحالية بشيء من الأمانة، و سيكتشف أنّها في بداية التاريخ، و ليس نهايته، و السر في ذلك أنّها :
• تفوّقت أمريكا في العلوم و التكنولوجيات المعلوماتية، بما يرشّحها، وفقا لرؤية ماسودا، للدخول إلى مجتمع المعلومات .
• غير أن تناقض التحولات الطبيعة مع مطامع الفئة الحاكمة من كبار الأثرياء، حال دون سيادة النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، النابعة من طبيعة مجتمع المعلومات .
• و هكذا شهدنا هذه المعالم الواضحة لانفصام الشخصية في واقع المجتمع الأمريكي . تطوّر كبير في التكنولوجيا المعلوماتية، و تطبيقاتها، مع تخلّف في النظـم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .
و لا شك أن مثل هذا القول بتخلّف الأوضاع الأمريكية، قد يثير الاستنكار لدى كتّابنا و مفكّرينا، لكن المتابع للكتابات الحرّة في المواقع الأمريكية على الإنترنيت، يمكنه أن يرى مظاهر ذلك التخلّف، التي تنجح وسائل الإعلام المملوكة لكبار الأثرياء أن تخفيها، و تصرف الأنظار عنها . و عندما نقول أن الولايات المتحدة في بداية التاريخ، و ليس عند نهايته، فنحن ننظر إلى الجهد المطلوب للتخلّص من فئة الأثرياء التي تحكم قبضتها على عنق الشعب الأمريكي، ثم فهم طبيعة النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي تنسجم مع الدخول إلى مجتمع المعلومـات، و العمل الجـاد على تطبيقها .. حتى تدخل الولايات المتحدة الأمريكية التاريـخ بشكل مشرّف، دون أن تتورّط في تحقيق
مطامع الإدارة، التي تجلب لها لعنات شعوب العالم .
لن أتعرّض الآن المهام الثقيلة أمام أمريكا في المجالات الاجتماعية، كالأسرة و التعليم و الخدمة الصحية و الاجتماعية . و لا لمهمة التحوّل من الاقتصاد القائم على ثوابت الاقتصاد الصناعي التقليدية، إلى الاقتصاد الجديد الذي يفرضه واقع عصر المعلومات . سأقتصر في حديثي على الديموقراطية، التي يثيرها فوكوياما في وجهنا كالسيف، غير منتبه إلى أن ذلك السيف ثنائي الحد .
ديموقراطية التمثيل النيابي، بتنويعاتها المختلفة، هي من ابتكار مفكّري بدايات عصر الصناعة . و قد كانت انتصارا كبيرا للإنسان، رغم جميع عيوبها، التي بدت ظاهرة للعيان منذ منتصف القرن الماضي . و هي ـ كما يقال ـ كانت أقل الخيارات ضررا . و مع انقضاء عصر الصناعة، و اندفاع عصر المعلومات، بدا واضحا أن هذه الممارسة السياسية لم تعد مناسبة لطموحات البشر في مجتمع المعلومات، و بدأ الحديث عن أشكال جديدة للممارسة الديموقراطية، تتيح للفرد أن يشارك ـ بنفسه ـ في اتخاذ القرارات التي تمس حياته، و لا يوكلها لمن ينوب عنه و يتحدّث ـ نظريا ـ باسمه .

السيطرة الراسبوتينية

و ارتبطت الديموقراطية الجديدة، أو ديموقراطية المشاركة، بتحوّل هام في عصر المعلومات، ينهي المركزية السائدة في مؤسسات الحياة الصناعية، و يعظّم الاتجاه إلى اللامركزية في كل جوانب الحياة البشرية . لهذا، فالديموقراطية الجديدة تعني الهبوط بجوهر عملية اتخاذ القرار، من القمّة إلى المستويات التالية، و حتّى القاعدة .
في بدايات كتابه " نهاية التاريخ، و الإنسان الأخير"، يقول فوكوياما " لا نستطيع أن نرسم لأنفسنا عالما يختلف أساسا من العالم الحالي، و هو في نفس الوقت أفضل .." . السؤال الذي يطرح نفسه مباشرة : أفضل لمن ؟ . لمجموعة كبار الأثرياء الذين يقبضون على مصائر البشر في الولايات المتحدة ؟، أم لجماعة الأصوليين المسيحيين و اليهود الذين يشكّلون جماعة المحافظين الجدد التي تسيطر سيطرة ( راسبوتينية ) على الإدارة الأمريكية، و على الرئيس الأمريكي الذي يحاول تغطية صورته السلبية السيئة بالابتسامة الساذجة التي يرسمها على وجهه، و هو يردد توجيهات و أفكار ذلك الوكر الأصولي .
في هذا الزمن، زمن التغيرات الجذرية المتلاحقة، في انتقالنا من نمط عصر الصناعة إلى نمط عصر المعلومات، يجيء فوكوياما ليتكلّم عن " الغياب الكامل لأيّة بدائل معقـولة للديموقراطية الليبرالية "، إلى أن يقول " الشكل الحالي للتنظيم الاجتماعي و السياسي، يعتبر مرضيا تماما للبشر، بالنسبة لأغلب خصائصهم الأساسية " .

* * *

فما الذي حدث في صيف عام 2004، عندما بدأ الانشقاق بين فوكوياما و جماعة المحافظين الجدد .. وكيف تحوّل فوكوياما إلى الانتقاد الحاد لحرب العراق ؟

هذا هو ما سنقرأه في الرسالة القادمة .

الأربعاء، أغسطس ٠٦، ٢٠٠٨

أمريكا .. المؤامرة

" نهاية التاريخ "

و بداية فوكوياما

في صيف عام 1989، ظهر مقال لفوكوياما تحت عنوان " نهاية التاريـخ "، في مجلة " المصلحة القومية "، التي تهتم بأفكار المجموعة المثيرة للجدل من الأصوليين اليهود و الأصوليين المسيحيين، و التي تطلق على نفسها اسم " المحافظون الجدد " عندما ظهر ذلك المقال، كانت الاستجابة له واسعة و إيجابية، و كان مصدرها الأساسي هو مجموعة كتّاب مجلة " المصلحة القومية "، الذين هم في نفس الوقت كتيبة التنظير للمحافظين الجدد .
و سرعان ما تحوّل الشاب فوكوياما، الذي كان يعمل حينذاك نائبا لمدير هيئة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية، إلى شخصية شهيرة بازغة، و حظي بمركز مرموق في مؤسسة ( راند ) التابعة للبنتاجون، كذلك حظي بعقد لنشر كتاب يتيح له أن يتوسّع في نظريته التي حظيت بإعجاب المحافظين الجدد، و إن كان من بينهم القطب المحافظ إرفنج كريستول الذي قال " أنا لا أصدّق كلمة واحدة ممّا جاء في المقال "، لكنه استدرك قابلا الفكرة الأساسية، و عامدا إلى امتداح الكاتب لقدراته العقلية العالية .
ما هي الفكرة الأساسية في نهاية التاريخ ؟ ..
يقول فوكوياما " إن ما نشهده ليس هو مجرّد نهاية الحرب الباردة، أو انقضاء مرحلة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، و لكن نهاية التاريخ في نفس الوقت : بمعنى نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للبشر، شيوع الديموقراطية الليبرالية الغربية عالميا، باعتبارها الشكل النهائي للحكومة البشرية .." .
نتيجة للاستجابات السلبية لكتابه، سارع إلى القول بأن الفهم السطحي لافتراضاته هو الذي يقود إلى هذه الاستجابات . و أنّه عندما قال بنهاية التاريخ على أساس انتصار الديموقراطية الليبرالية، لم يكن يعني أن العالم قد تخلّص من معاناته و صراعاته السياسية و مشاكله الاجتماعية الحادة . و قال " انتصار الليبرالية تحقّق في واقع الأفكار و الوعي، و لم يكتمل بعد في واقع العالم المادي .." . و أضاف أن هذا الوضع المثالي سيحكم العالم على المدى البعيد، لكنّه أصرّ على أن الديموقراطية الليبرالية لن يظهر بعدها نظام أفضل أو أرقى لشكل الحكم (!!!) .

سذاجة فكرية

هذا هو النوع من السذاجة الفكرية، الذي رأينا نماذج له على مدى التاريخ، و قاد إلى حكومات شمولية، بل و دكتاتورية .. غير أن الغريب فعلا، هو ألاّ يدرك فوكوياما، و لا الذين تحمّسوا لهذا ( الاختراع ) الفكري في أنحاء العالم، و لا كبار المفكرين في مصر من دكاترة الفكر الاستراتيجي .. ما لم ينتبه له هؤلاء جميعا، هو العلاقة الوثيقة بين الممارسة السياسية، و بين الأسس المجتمعية التي تقوم عليها حياة الناس في مجتمع ما .. لم يفهم هؤلاء أن الممارسة السياسـية، أو المشاركة في إدارة شـئون الحياة، في المجتمع الرعوي أو القبلي، تختلف عن نظيرتها في المجتمع الزراعي، و كذلك عن نظيرتها في المجتمع الصناعي .
لم يفهم هؤلاء أن ديموقراطية التمثيل النيابي، أو الديموقراطية الليبرالية كما يحلو لفوكوياما أن يشير إليها، هي من اختراع مفكّري عصر الصناعة، لمواجهة تضخّم عملية صناعة القرار، نتيجة للمزيد من التركيب الذي أصبحت عليه حياة الأفراد في المجتمع الصناعي، بعد ظهور الإنتاج على نطاق واسع الذي أتاحته الآلة، و انفصاله عن التوزيع و التسويق على نطاق واسع، و بعد ظهور السوق ككيان مستقل بالمعنى المعاصر . و في هذا يعقد ألفن توفلر، المفكّر المستقبلي الكبير، مقارنة بين ديموقراطية التمثيل النيابي، و بين مراحل عمل الآلة في المصنع، فيقول :
" انبهر رجال الأعمال، و المثقفـون الثـوريون، انبهارا كاملا بالآلة في بـداية عصر الصناعة، فأقاموا العديد من نظم الحياة على نفس الأساس الذي تعمل وفقه الآلة . من هنا نبع تصوّر المجتمع الصناعي للعملية التعليمية، و المؤسسات السياسية التي تشترك في ملامح عديدة مع آلات مطلع عصر الصناعة .. حدث هذا في الدول الصناعية الرأسمالية و الاشتراكية في نفس الوقت .." .

هيجل و ماركس

الكاتب الأمريكي روجر كيمبول، كتب معلقا على نهاية التاريخ التي قال بها فوكوياما " فكرة نهاية التاريخ ليست جديدة بالمرّة . بشكل أو آخر، هي أحد مكونات العديد من الأساطير و الأديان، بما في ذلك المسيحية، برؤيتها عن المجيء الثاني . و كل من يعرف الفترة الفاصلة في الفكر الفلسفي الألماني، في القرن التاسع عشر، سيتذكّر أن نهاية التاريخ ظهرت بوضوح في فلسفات هيجل، و خليفته الساخط كارل ماركس " .
و يستطرد كيمبول قائلا أنه من الغريب موقف فوكوياما من نهاية التاريخ الذي يبدو متناقضا بشدّة.. " فهو من ناحية، و باعتباره المخلص لهيجل، ينظر إليه باعتباره الانتصار النهائي للحرّية . و هو يتكلّم عن دول أو أجزاء من العالم، ما زالت ( عالقة ) بالتاريخ، أو ( غائصة في وحل التاريخ ) . كما لو كان الوجود في واقع التاريخ هو أمر يجب علينا أن نتجنّبه . و من ناحية أخرى، يرى أن ( نهاية التاريخ ستكون من الأوقات شديدة الحزن )، جزئيا، لأنّه يؤمن بأن الأشياء التي أطلقنا عليها يوما ( الجرأة، و الشجاعة، و التخيّل، و المثالية، ستحل محلّها الحسابات الاقتصـادية ) ... و من ناحـية أخرى، لأنه ( في عصر ما بعد التاريخ )، لن يكون هناك فـن، و لا فلسـفة، فقط الرعاية السـرمدية لمتحـف التاريخ البشري .." .
لا بد من الاعتراف بقدرات فرانسيس فوكوياما، في مجال رشاقة التعبير، و إضفاء الصبغة العلمية على أغرب الأفكار، التي أثارت اهتمام ـ بل و تصديق ـ الآلاف من البشر، في أنحاء العالم .. لقد كنت أرى البـريق في عيون بعض كبار المفكـّرين لدينا، عندما ظهرت موجة الأفـكار التي تتبناها مجموعة المحافظين الجدد، من أمثال أفكار فوكوياما، و هنتينجتون، و تنشرها في مجلة " المصلحة القومية " .. كيف لم ينتبهوا إلى ضحالة الأفكار المطروحة، و خطأ الاستنتاجات القائمة عليها ؟ . لماذا يحدث هذا، وهم الدارسون الباحثون المتابعون ؟ .. هل هو غياب الرؤية الشاملة الواضحة ؟ .. أم هو غياب المنهج المناسب للتعامل مع الواقع المتغيّر الذي يفرضه الدخول إلى مجتمع المعلومات ؟ .

خطأ شامل، في مقدماته و تواليه

منذ البداية، و في مقاله الذي كان بمثابة إعلان وفاة التاريخ، آمن فرانسيس فوكوياما بأن الديموقراطية الليبرالية ( و نموذجها في رأيه نظام الحكم في الولايات المتحدة ) ، هي نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي الإنساني، و الشكل النهائي لحكومات البشر . و هذا خطأ شامل، في مقدماته و تواليه . فالنظام السياسي الأمريكي لا يعتبره العارفون نظاما ديموقراطيا ..
واقع الأمر يقول أن الولايات المتحدة تحكم كلّ أمورها، مجموعة من كبار الأثرياء في مجال السلاح و البترول و المقاولات، و ربما الدواء أيضا . يتحكمون في الانتخابات على مختلف مستوياتها، من الولايات و حتّى الكونجرس .. و يتحكمون في تمويل الحملات الانتخابية لرئاسة الجمهورية .. بالنسبة للجمهوريين و الديموقراطيين في نفس الوقت .. و أيضا يتحكمون في الرأي العام الأمريكي من خلال وسائل الإعلام و شركات الإنتاج الفني التي يمتلكونها .. و الهدف في نهاية الأمر، أن يضمنوا تخصيص مئات المليارات من الدولارات في ميزانية الدولة، بطريقة تجعلها تتسرّب إلى خزائنهم، بكل الوسائل الممكنة : بالأكاذيب، و التضليل، و التآمر، و الحروب المفتعلة، و افتعال أعداء يتربصون بالشعب الأمريكي المسكين، في البر و البحر و الجو، و من أقصى أبعاد الفضاء .. و هذا هو الذي دفع البعض إلى القول بأن أحداث 11 سبتمبر، تحوطها شكوك عديدة، لفرط انسجامها مع استراتيجيات هذه الطبقة الحاكمة من كبار الأثرياء . و ذلك البعض يحاول دعم شكوكه، بذكر ما ورد في تقرير رئيسي لجماعة المحافظين الجدد، التي تشكّلت في عصر ريجان ، و تدعّمت في عصر بوش، و تفرّغت لدعم كيانها الفكري في زمن حكم كلينتون، و طفت على السطح بقوّة مع بدايات حكم جورج دبليو بوش .. جاء في التقرير الذي وضع عام 2000، أي قبل 11 سبتمبر، ما يلي بالنص الحرفي :
" عملية التحوّل، حتّى لو جاءت معها بتغيرات ثورية، تنسحب في الأغلب على مدى زمني طويل .. و ما ينقصنا حدث حافز كالكارثة ..أشبه ببيرل هاربور جديدة " .

و إلى الرسالة القادمة، لنرى أن أمريكا هي التي في بداية التاريخ !

الأربعاء، يوليو ٢٣، ٢٠٠٨

أمريكا ..كيف تفكّر فينا ؟

سياسة إدارة بوش
سلسلة أكاذيب .. و خسائر !

ما هو سرّ الخسائر الضخمة التي جلبتها إدارة بوش على شعب الولايات المتحدة الأمريكية ؟، لماذا تخفّت أمريكا وراء سلسلة من الأكاذيب و الادّعاءات في حرب العراق ؟، و لماذا خسرت أمريكا الكثير من تحالفاتها، و سمعتها العالمية، في سبيل هذه الحرب ؟ .. هل هو الإدعاء الكاذب بالرغبة الجنونية لدى بوش، المتمثلة في تحويل العراق إلى دولة ديموقراطية ؟! .. أم هل هو ـ كما جاء في الكتاب الذي نطرحه ـ سعي إلى إعادة بناء الدولة العراقية ؟ .. السرّ في هذا كلّه، أن هدف الولايات المتحدة من غزو و احتلال العراق هو وضع اليد على بترولها، حاليا و مستقبلا، و زرع قاعدة عسكرية كبرى، تتيح لها التحكّم في المنطقة، و حتّى حدود الصين . .
على أي حال دعونا نصدّق ـ مؤقتا ـ ما يقوله البنتاجون في كتابه " الدور الأمريكي في بناء الأمم .. من ألمانيا إلى أفغانستان ".. و نستعرض الفصل الخاص بتطبيق الدروس المسـتفادة من عمليات الغـزو السابقة، في تجربة غزو و احتلال العراق .. لنرى التناقضات التي يقع فيها النظام الأمريكي نتيجة لكثرة أكاذيبه التي يطلقها بغرض إخفاء غاياته الحقيقية . .

الفرحة التي لم تتمّ !

يقول الكتاب " بالرغم من أن المرحلة العسكرية في الحرب ضد العراق تم بشكل جيد جدا، و انهار النظام بأسرع ممّا توقّع الكثيرون، فقد تركت الولايات المتحدة لتواجه مهمة لا تحسد عليها، في سعيها لبناء دولة عراقية ديموقراطية، و نشطة اقتصاديا .. " .
ثم يحاول الكتاب أن يجرى مقارنة تاريخية مع تجربة احتلال العراق البريطانية، رغم أن القياس هنا لا يكون واردا، مع اختلاف الزمن و نوع الحياة السائدة، بل و اختلاف معنى المصطلحات المستخدمة . يقول الكتاب " لقد أمضى البريطانيون عدّة عقود، في محاولة تشكيل دولة عراقية، من بقايا الإمبراطورية العثمانية، لكن لا هم، و لا من أعقبوهم من العراقيين، نجحوا في صياغة دولة عراقية حقيقية .." .
و يقول الكتاب أن بناء الدولة في العراق يواجه عدّة تحديات :
أولا ـ غياب أي تقاليد للديموقراطية التعددية : لقد كانت السياسة في العراق تدور دائما حول الحكم الفردي، و تسوية الحسابات بالقوّة .
ثانيا ـ الهوية القومية للعراق : رغم وجود نوع من الهوية القومية العراقية، إلاّ أنها لا تستطيع أن تقف في وجه الأشكال المجتمعية الأخرى، العرقية و الجغرافية و القبائلية، و أيضا الدينية . فأغلبية الشعب، المكونة من الأكراد و الشيعة، ليس لديها تقاليد حقيقية، للتمثيل في السياسة القومية للعراق . و المفروض الآن، أن يجري إدخالها إلى الحقل السياسي .
ثالثا ـ الجريمة المنظمة و العصابات : و ممّا يزيد الطين بلّة، تمتد جذور الجريمة المنظمة و العصابات عميقا في المجتمع العراقي . ( و بالمناسبة، من بين قيادات الجريمة المنظمة في العراق إياد علاوي، الذي اختارته الولايات المتحدة رئيسا للوزارة العراقية المؤقتة . و هناك قائمة بنشاطه التخريبي، في تفجير دور السينما، و أتوبيس الأطفال المدرسي، في بغداد، بعد أن انشقّ عن صدام، وعمل لحساب المخابرات البريطانية و الأمريكية ) .
رابعا : غياب الطبقة المتوسطة : العقد الأخير من العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على العراق، و من الممارسة الدكتاتورية لنظام صدام، أفرغ العراق من طبقته المتوسطة التي كانت قوية في يوم من الأيام، و التي كان لها دورها في تطوير المجتمع المدني .
خامسا : الخروج من حقبة حكم شمولي طويلة : بالإضافة إلى هذه المشاكل العراقية الخاصة، تواجه البلاد التحديات المألوفة لمجتمع يسعى للخروج من حكم شمولي طال أمده .
و يواصل الكتاب طرح العقبات التي تقف في طريق بناء الدولة العراقية، على يد المحتل الأمـريكي طبعا (!) . و يعترف بالخـطأ الذي وقعت فيه الولايات المتحدة، عندما أخذتها العـزّة بالإثم، و تصوّرت أن بإمكانها أن تستغني عن الأمم المتحدة، و معظم دول العالم، في المغامرة العراقية .
يقول الكتاب أن القوّة العسكرية، و خدمات الأمن، و البيروقراطية العراقية، تحتاج إلى إصلاح و تطهير جذريين . و تشتد الحاجة إلى تحقيق العدالة لضحايا حقوق الإنسان ( ملحوظة : لا أدري عن أي حقوق إنسان مهدرة يتكلّم الكتاب، تلك التي أهدرها صدام، أم أهدرتها القوات الأمريكية و البريطانية بالنسبة للمعتقلين و السجناء العراقيين، أم من تكفّلت بهم الوزارة المؤقتة ؟!) .
ثم يتكلّم الكتاب عن المحنة الاقتصادية التي عاشها الشعب العراقي على مدى عقدين من العذاب، يقصد العقوبات الاقتصادية التي تحمّست لها الولايات المتحدة، و ضغطت على الأمم المتحدة حتّى وافقت عليها، المرّة بعد الأخرى، و التي كان الهدف منها معاقبة صدام حسين و نظامه، فوقع العقاب على الشعب العراقي فقط . و يقول الكتاب أن هذه التحديات تكون لها دلالاتها و آثارها .

الجيرة غير المتعاطفة

و نتيجة للملابسات الدبلوماسية للصراع، يكون على الولايات المتحدة أن تتصدّى أيضا للجيران غير المتعاطفين ـ إيران، و سوريا، و تركـيا ـ الذين لهم مصلحة في التأثير على السياسـات العراقية، و ربما زرع عدم الاستقرار في عملية التحوّل السلسة .
و على المستوى العالمي ـ يقول الكتاب ـ قادت الانقسامات السابقة للحرب، في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، إلى جعل المهمة أكثر مشقّة على الولايات المتحدة، في تبنّي سوابق نماذج المشاركة في تحمّل العبء، التي حدثت في البوسنة و كوسوفو، و حتّى في أفغانستان . (هنا، لا أعتقد أننا نحتاج إلى تذكير القارئ بأن هذا كان خيار إدارة بوش، و عصابة ديك تشيني من كهـنة المحافظين الجدد، ممّا دفع الولايات المتحدة إلى أن تضرب عرض الحائط بأي رأي أو مشورة من الأمم المتحدة، أو من الدول الصديقة ) .
و يقول الكتاب أنه في نفس الوقت، قادت هذه الأوضاع، إلى أن تصبح الولايات المتحدة غير قادرة على القيام بالعديد من التحضيرات السابقة لبدء الحرب، التي كان من الممكن أن تسهّل التحولات التالية للحرب، مثل تنسيق العمليات الإنسانية مع الأمم المتحدة و المنظمات غير الحكومية، و تنظيم قوى بوليس مدني دولي، و تأسيس سلطة سياسية عالمية، لدحض شكوك العرب بالنسبة لإمبريالية الولايات المتحدة .

إيجابيات الوضع العراقي!

غير أن الكتاب يرى أن العراق تتمتّع ببعض المزايا، في مجال بناء الدولة، و يوردها كالتالي :
أولا : تتمتع بإدارة مدنية يمتد نفوذها إلى أنحاء الدولة، و تعتبر على درجة من الكفاءة النسبية . و هذه الإدارة تحتاج إلى إعادة بناء، و ليس إلى إقامة جديدة من نقطة الصفر . و لأنّها تعتمد على عمالة عراقية، فهذا سيخفّض الحاجة إلى التدخل الدولي المباشر، و يسهّل إدارة الأمن و التنمية عبر البلاد .
ثانيا : الإدارة المدنية القائم، و العلاقات الكثيفة مع وكالات الأمم المتحدة، يعني أن بالإمكان التوصّل إلى حلول للمسائل الإنسانية .
ثالثا : البترول الموجود في العراق يعني أن الدولة لن تبقى معتمدة على المساعدات الدولية، على المدى الأوسط .
و يقول الكتاب في النهاية، أن الولايات المتحدة، و هي تشرع في برنامجها بالغ الطموح لبناء الدول، و الذي يعود إلى سنة 1945 ( و هو يشير هنا إلى إعادة بناء ألمانيا و إيطاليا )، يمكن أن تتعلّم دروسا هامة من الدراسات التي تمت على الحالات المختلفة، و التي يتضمنّها هذا الكتاب . ثم ينتقل الكتاب إلى محاولة تبرير استمرار بقاء الاحتلال الأمريكي للعراق، رغم وقائع الفشل المتتالية، فيقول " لا تستطيع الولايات المتحدة أن تطبق استراتيجيات انسحاب مبكّر، و لا أن تترك المهمة نصف منجزة . و السؤال الحقيقي لا يجب أن يكون عن أقرب وقت تستطيع فيه أمريكا الرحيل، و لكن بأي قدر و بأي سرعة تستطيع أن تشارك السلطة مع العراقيين, و مع المجتمع الدولي ؟ .."

* * *

لنكتشف الخلط الفكري الذي يشوب تحليلات فوكوياما في هذا الكتاب، يحسن أن نراجع ما قاله في كتابه الشهير " نهاية التاريخ "، لنرى جذور هذه الأفكار الغريبة، و الرؤى المختلطة، و المنهج الانتهازي الذي يضفي على المؤامرة الكبرى صبغة الفكر الأصيل .. تماما كما فعل زبانية أدولف هتلر من المفكّرين، في القرن الماضي، و أسفر عن مآسي الحرب العالمية الثانية، بما أحدثته من خراب و دمار و تقتيل .

الأربعاء، يوليو ٠٩، ٢٠٠٨

أمريكا .. المؤامرة

أمريكا.. ماذاتفعل بها

الرغبة القاتلة في التفرّد ؟

لا أدري كيف لم ينتبه كتاب الدور الأمريكي في بناء الدول.. من ألمانيا إلى العراق ، و هو يتساءل عن سر النجاح الذي تحقق في ألمانيا و اليابان، ثم الفشل في محاولات الصومال و هاييتي و أفغانستان . إلى اختلاف البنية المجتمعية في ألمانيا و اليابان، عنها في الدول الأخرى ..
قبل أن نفكّر في إعادة البناء، أو في فرض نظم على مجتمع ما، لا بد أن نعرف بشكل علمي طبيعة الأسس المجتمعية السائدة فيه، و النابعة من طبيعة التكنولوجيا السائدة، التي يقوم عليها عمل معظم أفراد ذاك المجتمع .
مشكلة أمريكا الكبرى، في الداخل و الخارج، أنها لا تنتبه ـ وسط دوامـة الأطماع و شعور التفرّد بالقوّة ـ إلى العلاقة بين التكنولوجيا الابتكارية الأساسية السائدة، و التي تقوم عليها عمالة المجتمع، و بين نوع الأنظمة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية المطلوبة .
عصر الزراعة، قام لعشرة آلاف سنة على تكنولوجيات محدودة، لا يحتاج إلى أكثر منها . و لذلك، مع كل الاختلافات العرقية و العقائدية و الجغرافية بين الدول الزراعية في قارات العالم، كانت الحياة تسير وفق نظم سياسية و اقتصادية و اجتماعية واحدة، في معظم الأحيان .
و بعد ذلك، كلّما تحول شعب إلى الصناعة، في أي قارة من القارات، سارت حياته وفق النظم الخاصة بالمجتمع الصناعي، في مجال السياسة و طرق الحكم و اتخاذ القرار. و في مجال الاقتصاد من حيث انفصال الإنتاج على نطاق واسع، و التوزيع على نطاق واسع، و قيام السوق بمعناها الصناعي . و اعتمد ذلك الشعب مفهوما اجتماعيا ينسب إلى عصر الصناعة، من حيث الأسرة و التعليم و الرعاية الصحية و الاجتماعية . كما أصبح يسير وفق القيم و المبادئ و العقائد النابعة من احتياج الصناعة .
و نفس الشيء يحدث اليوم، في انتقالنا من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات .
أزمة أمريكا الداخلية في جوهرها : اقتحام عصر المعلومات بعلوم و معارف و تكنولوجيات معلوماتية متقدّمة، و جمود عند خليط من قيم مجتمع الصناعة في حياتها السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، نتيجة لسيطرة القلة من كبار الأثرياء . كما أن أزمة أمريكا، في تعاملها مع الخارج، التي يكشف عنها هذا الكتاب، هي نفس الأزمة، في تصوّر إمكان إعادة بناء الصومال مثلا بتكويناته المجتمعية الحالية، بنفس منطق إعادة بناء ألمانيا و اليابان، و هما الدولتان الصناعيتان اللتان كانتا تصنّفان على نفس المستوى الصناعي لأمريكا، قبل الحرب العالمية الثانية
الذي يجب أن تفهمه أمريكا جيدا، أنه من الخطأ تصوّر إمكان فرض نظم المجتمع الصناعي على مجتمع زراعي، لم يتحوّل معظم أهله إلى العمل الصناعي .. ديموقراطية التمثيل النيابي، بكل ما يتّصل بها من أحزاب و صناديق انتخاب و معارك انتخابية، هي من اختراع عصر الصناعة، و قامت تلبية لاحتياجات الحياة الصناعية، و مصالح الاقتصاد الصناعي .
و هذا الخلط يجعلني مفضلا تجاوز الفصل الخاص بمقارنة حالات التدخّل الأمريكي في الكتاب .

الرغبة القاتلة في التفرّد

في فصل بعنوان " التفرّد بالقيادة، في مقابل المشاركة متعددة الجنسيات "، نكتشف مدى الرغبة الأمريكية القاتلة في التفرّد بالعمل، و في فرض إرادتها على العالم . و الكتاب يعترف أنّه لولا ضيق ذات اليد (!)، لانفردت أمريكا بالعمل جميعه !! . يقول الكتاب أن أمريكا تحمّلت معظم العبء في تحويل اليابان، و جانبا كبيرا من العبء الألماني، عندما كانت تحقق 50% من إجمالي الإنتاج المحلي في العالم . و في التسعينيات، و عندما هبطت النسبة إلى 22%، أصبح التعاون العالمي في عبء العمليات حتميا . و كانت مشكلة أمريكا بعد ذلك أن تساهم بما هو متاح في الجهد العالمي، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من التفرّد بالقرار .
و يتكلّم الكتاب عن أسباب فشل العمليات في الصومال و هاييتي . و كيف نجحت الأمم المتحدة في إقامة قيادة مشتركة بالنسبة لعمليات البوسنة، و مساهمة عسكرية واسعة من خلال "الناتو" . و يقول الكتاب " يبدو أن الترتيبات التي تمت في كوسوفو توفّر الصورة الأمثل للجهود المندمجة، بين قيادة الولايات المتحدة، و المساهمة الأوربية، و المشاركة الواسعة في الأعباء المالية، و الوحدة القوية في القيادة .. " . و يبدي الكتاب اعتزازا بالنسبة للعمليات الخاصة بكوسوفو، باعتبار أن " الولايات المتحدة قد نجحت في أن تقوم بدور قيادي يحوز الرضا، رغم أنها دفعت 16% فقط من تكاليف إعادة البنـاء، و قدمت 16% فقط من قوات حفظ السلام ..".
و يخرج الكتاب باستخلاص من تجربتي كوسوفو و البوسنة، مفاده أن " نجاح هذين النموذجين في إدارة عملية إعادة بناء على نطاق واسع، اعتمد بشدة على قابلية الولايات المتحدة، و حلفائها الرئيسيين، للتوصّل إلى رؤية مشتركة لأهداف المشروع، ثم لتشكيل استجابات المؤسسات المعنية ـ و هي أساسا حلف شمال الأطلنطي، و الاتحاد الأوروبي، و الأمم المتحدة ـ وفقا للأهداف المتفق عليها .." .
و عندما ينتقل الكتاب إلى التدخلات الأخيرة، يقول في مقارنات غير مفهومة " المحصلة النهائية التي توصلنا إليها حاليا في أفغانستان، تجيء أفضل من نظيرتها في الصومال، و أيضا أفضل مما توصلنا إليه في هاييتي، و لكن ليس بنفس جودة البوسنة و كوسوفو . على أي حال، عملية أفغانستان أقل تكلفة مالية بكثير .." .

تغيير النظم، و ليس إحياء الاقتصاد

تحت عنوان " اشتراطات النجاح " يقول الكتاب " بناء الدول، كما عرّفناه، و الأكثر أهمية، كما عرّف المسئولون عن العمليات أهدافهم في وقت تدخلهم، لم يكن هدفه الأساسي إعادة بناء اقتصاد دولة ما، و لكن إحداث تحوّل في مؤسساتها السياسية .." . لاحظ هنا، أنهم لا يقرون بعلاقة وثيقة بين طبيعة البنية الاقتصادية، و البنية السياسية المناسبة لها .
و يستطرد الكتاب قائلا " إن نشر الديموقراطية في أمريكا اللاتينية، و آسيا، و أجزاء من أفريقيا، يوحي بأن هذا الشكل من الحكومات ليس قاصرا على الحضارة الغربية، أو على الاقتصاديات الصناعية المتقدمة .. لكن فشل التدخل الذي يتم بقيادة الولايات المتحدة في تشجيع التحوّل إلى الديموقراطية في هذه الدول، له تفسيرات أخرى غير التفسيرات الاقتصادية الخالصة .. و وحدة الأعراق الجنسية، هو متغيّر آخر ممكن الأخذ به عند تفسير الفروق في نتائج عمليات إعادة بناء الدول المختلفة . فالصومال و هاييتي و أفغانستان، كانت منقسمة على نفسها عرقيا و قبليا، بأشكال لم تكن متحققة في ألمانيا أو اليابان ." .
و مرة أخرى، يخرج الكتاب باستخلاص قاصر عندما يقول " ما يميّز ألمانيا و اليابان و البوسنة و كوسوفو من ناحية، عن الصومال و هاييتي و أفغانستان من الناحية الأخرى، ليست هي مستويات التطور الاقتصادي، أو التأثر بالثقافة الغربية، أو التجانس العرقي . الذي يميز بين هاتين المجموعتين من الدول، هو مستوى الجهد الذي بذله المجتمع الدولي من تحوّلها إلى الديموقراطية .." .
و نعود لنقول أن التفكير في التحوّل الديموقراطي تحتاج إلى أمرين، تحديد نوع الممارسة الديموقراطية التي نتكلّم عنها : ديموقراطية الشورى التي نبعت من احتياجات المجتمع الزراعي، أم ديموقراطية التمثيل النيابي التي اخترعها المجتمع الصناعي لتلبية احتياجات صناعة القرار فيه، أم ديموقراطية المشاركة التي لا ينيب فيها الفرد من يتخذ عنه قراراته المصيرية، و يتولاّها بنفسه .. و الأمر الثاني، فهم طبيعة التكوين المجتمعي الذي نتصدّى لتحويله ديموقراطيا، و أن نحدد طبيعة التكنولوجيا التي تعتمد عليها الأغلبية السائدة من العمالة فيه، لكي نختار له نوع الممارسة الديموقراطية التي تتناسب مع هذا التشكيل المجتمعي .

الاستخلاصات العامة

فصل الاستخلاصات يعتبر من الفصول الهامة، لأنّه يحدد لنا الاستراتيجيات التي يمكن أن تتبعها أمريكا في عمليات التدخّل العسكري القادمة ! . يقول الكتاب " لقد استنبطنا عددا من الاستخلاصات العامة، بالإضافة إلى العديد من الدروس المستمدّة من الحالات التي ناقشناها " . فماذا تتضمّن هذه الاستخلاصات :
أوّلا – الوقت وتعداد القوّات و المال : يصر واضعو الكتاب على أن العوامل المؤثرة في مدى صعوبة أو سهولة في عملية إعادة البناء، الخبرة الديموقراطية السابقة للشعب، و مستوى التطوّر الاقتصادي، و مدى التجانس القومي . لكن أهم العوامل و الذي يكون مؤثّرا في النتائج الإيجابية المتحققة، يبدو أنه يكون مستوى الجهد المبذول .. مقاسا بالوقت الذي تستغرقه العملية، و تعداد الجند و العاملين من قوى التدخّل، و النقود .
ثانياـ العمل الجماعي يكون أكثر تعقيدا، و أقل تكلفة : عمليات إعادة البناء التي تقوم بها جهات متعددة تكون أكثر تعقيدا و تبديدا للوقت، قياسا على انفراد أمريكا بالعمل . لكن الجهد الجماعي يكون أقل تكلفة .
ثالثا ـ العمل الجماعي أكثر نجاحا و تأثيرا : اشتراك عدة دول في عملية إعادة البناء، يمكن أن ينتج تحوّلات باقية الأثر، و قبولا إقليميا أكبر، قياسا على الجهد الفردي لأمريكا .
رابعا ـ وحدة قيادة لقوات متعددة الجنسيات : يمكن أن يتحقّق النجاح لقيادة موحّدة، تضم مجموعة من القوات متعددة الجنسيات، إذا ما كان المشاركون الرئيسيين يمضون وفق رؤية مشتركة، و من الممكن أن يشكّلوا تبعا لذلك مؤسسات دولية .
خامسا ـ العلاقة بين حجم قوات استقرار الأوضاع، و قدر المخاطر : يبدو أن هناك علاقة عكسية بين حجم القوات المستخدمة في استقرار الأوضاع الجديدة، و مقدار المخاطر التي تتعرّض لها هذه القوات . كلما كان تعداد قوات حفظ الأوضاع أكبر، قل عدد إصابات و معاناة الجنود . الثابت، أن معظم العمليات العسكرية التي تضمنّت قوات حفظ أوضاع مناسبة، بعد انتهاء العملية العسكرية، لم تحدث فيها معاناة من الإصابات .
سادسا ـ الدول المجاورة تأثيرها كبير : يمكن أن يكون للدول التي تجاور الدولة التي خضعت للتدخّل العسكري أثرا كبيرا و ملموسا . يكاد أن يكون من المستحيل تقريبا، لجمع أطراف دولة متفرّقة متجزّئة، عندما تعمل الدول المجاورة إلى تمزيقها . يجب بذل كل جهد ممكن لضمان مساندة الدول المجاورة .
سابعا ـ المظالم السابقة، قد تسهّل التطبيق الديموقراطي : الاعتماد على المظالم السابقة في الدولة المعنية، و على إحساس الشعب بها، يمكن أن يكون عنصر هام في عملية التطبيق الديموقراطي . و لكن يمكن أيضا أن يصبح ذلك من أكثر الجوانب نقاشية في الاندفاع إلى أي عملية إعادة بناء دولة ما .. و من ثم يجب ألا نحاول ذلك إلا إذا توفّر التزام عميق و طويل المدى، للعملية بأكملها .
ثامنا ـ عدم وجود طريق مختصر : لا يوجد طريق مختصر و سريع لعملية بناء دولة . و يبدو أن الحد الأدنى المطلوب لفرض تحوّل جاد و مستمر نحو الديموقراطية، هو خمس سنوات .

و إلى الرسالة التالية، لنرى سياسة إدارة بوش كسلسلة أكاذيب .. و خسائر

الاثنين، يونيو ٠٩، ٢٠٠٨

أمريكا .. المؤامرة

من ألمانيا إلى أفغانستان

الدور الأمريكي العجيب في بناء الأمم

نواصل فيما يلي اســتعراضنا لكتاب البنتاجون الأمريكي، الصادر عن مؤسسة ( راند )، تحت إسم " الدور الأمريكي في بناء الدول.. من ألمانيا إلى العراق " .
يقول الكتاب أن احتلال أمريكا لألمانيا و اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، كان الخبرة الأولى لأمريكا في استخدام القوّة العسكرية، في أعقاب الصراع، لفرض تحوّل مجتمعي أساسي سريع .
و هذه أوّل مغالطة، فتعبير " تحوّل مجتمعي " ينسحب على حالة تحويل دولة من النظام الزراعي إلى النظام الصناعي مثلا، أو من الصناعي إلى المعلوماتي . و حقيقة الأمر أن ألمانيا و اليابان كانتا دولتين صناعيتين كبيرتين، قبل الحرب العالمية الثانية، و بعد التدخّل العسكري الأمريكي في نهاية الحرب العالمية الثانية . لم تكن العملية عملية تحولات مجتمعية، بل كانت تلاطم مصالح استعمارية سادت عصر الصناعة بأكمله . فالاستعمار العسكري كان جانبا من جوانب المجتمع الصناعي، و أحد ضرورات المنافسة الاقتصادية .. فقامت العديد من الحروب ـ المعلنة و الخفية ـ بين الدول الاستعمارية، و التي كانت الحرب العالمية الثانية إحداها .
ثم يقول التقرير " وبالنسبة للسنوات الأربعين التالية، كانت هناك محاولات قليلة لتقليد عمليات النجاح السابقة . و خلال الحرب الباردة، كانت سياسة الولايات المتحدة تركّز على الاحتواء و الردع و الإصلاح تجاه الأمر الواقع .. و كان استخدام القوة العسـكرية للحفاظ على الأمر الواقـع، و ليس لتغييره.. على إدارة الأزمات و ليس حلّ المشاكل التي تسببها .." .
و من الواضح أن أمريكا كانت تتخذ ذلك الموقف، توقيا للصدام مع الاتحاد السوفييتي . و من الواضح أيضا أن تلك السياسة قد تغيّرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي .
يقول التقرير " تدخلات الولايات المتحدة في أماكن مثل جمهورية الدومينيكان، و لبنان، و جرينادا، و بنما، كان بهدف الإطاحة بأنظمة غير صديقة، و إقامة أخرى صديقة، أكثر من كونه سعيا إلى إحداث تحولات مجتمعية أساسية .." . إلى أن يقول " نهاية الحرب الباردة خلقت مشاكل جديدة للولايات المتحدة، و فتحت احتمالات جديدة .. خلال الحرب الباردة، عمدت الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي، و أحيانا كلا منهما، إلى دعم عدد من الحكومات الضعيفة لأسباب جغرافية سياسية . على سبيل المثال، اعتبرت كل من يوغوسلافيا و أفغانستان قطعة هامة من الناحية الاستراتيجية الجغرافية، فوق رقعة شطرنج الحرب الباردة، و استقبلت أنظمتهما الحاكمة دعما خارجيا قويا .. و مع اختفاء الاتحاد السوفييتي، فقدت موسكو قدرتها، كما فقدت واشنطن منطقها الجغرافي السياسي لدعم مثل تلك الأنظمة .. و أصبحت واشنطن حرّة في تجاهل الاضطرابات الإقليمية، إذا كانت لا تهدد مصالح الولايات المتحدة .." .
و بكل صراحة، يقول التقرير أن الولايات المتحدة ـ منذ نهاية الحرب الباردة ـ أصبحت لديها القوة التي لا ينافسها أحد لحل المشاكل العالمية، و ليس مجرّد احتواءها .

ضمان الدعم الدولي

أصبحت الولايات المتحدة قادرة على تأمين دعم دولي لجهودها، عندما تختار الاعتماد على ذلك الدعم، هذا هو ما يقوله كتاب الدور الأمريكي في بناء الأمم من ألمانيا إلى أفغانستان . و يضيف أن المجتمع العالمي أصبح أكثر ميلا لسياسة التدخّل العسكري . و رغم البيئة الدولية متزايدة الدعم لهذا الجهد، فإن التكلفة و المخاطر المرتبطة ببناء الدول ظلّت عالية . و نتيجة لذلك فلم تقدم الولايات المتحدة على هذه العمليات بسهولة .
لقد انسحبت من الصومال عام 1993، عند أول مقاومة جادة صادفتها . و آثرت عدم المشاركة في الجهود الدولية من أجل إيقاف المذابح في رواندا عام 1994 . كما قاومت الجهود الأوربية للاشتراك في قوّة حفظ السلام بالبلقان، على مدى أربع سنوات من الحرب الأهلية الدموية . و بعد تدخلها في البوسنة، قضت ثلاث سنوات أخرى في محاولة التوصّل إلى حلول غير عسكرية للصراع العرقي في كوسوفو .
و رغم هذا التحفّظ، كان كل تدخّل بقيادة الولايات المتحدة، فيما بعد الحرب الباردة، أكبر و أوسع في نطاقه ، و أكثر طموحا في مقاصده، من الذي سبقه .
و يقول الكتاب أن الهدف الأساسي في الصومال كان إنسانيا صرفا، ثم توسّع بعد ذلك ليسـتهدف إرساء نظام ديموقراطي . و في هاييتي، كان الهدف إعادة تنصيب رئيس، و إدارة انتخابات وفقا للدستور القائم . و في البوسنة كان دولة متعددة الأعراق . في كوسوفو، كان الهدف تأسيس حكومة ديموقراطية، و اقتصاد حر، من الصفر فعلا .
في حملة الانتخابات الرئاسية عام 2000، انتقد جورج بوش إدارة كلينتون، لأجندتها المتسعة في مجال بناء الدول . و لكن كرئيس، تبنّى بوش مجموعة أكثر تواضعا من الأهداف، عندما واجه بتحديات شبيهة في أفغانستان . و الجهد الحالي لهذه الإدارة يمضي في السبيل المعاكس، نحو عمليات أكبر، أكثر طموحا تقودها الولايات المتحدة في مجال بناء الدول .
و في نهاية هذا الفصل، نجد هذا الاستخلاص " يبدو أن بناء الدول، هو المسئولية التي لا يمكن التنصّل منها، بالنسبة للقوّة العظمى الوحيدة في العالم .." .

المنصرف .. و الوارد

و كالعادة، يقوم الكتاب بمسك دفاتر عمليات التدخل العسكري للولايات المتحدة في أنحاء العالم، ليحدد العلاقة بين الإنفاق و المكسب .. فيقول " و بعد تقييم الحالات السبع التي ندرسها، أجرينا مقارنة البيانات الكمّية لعمليات بناء الدول، و التقدّم الذي تحقق في مجال الديموقراطية، و خلق اقتصاد لامع .. " .
و بعد محاولات غير مقنعة، لتثمين خطوات التدخّل، و جرد حسابات المكسب و الخسـارة، يقول الكتاب " بالرغم من أن كل حالة تكون فريدة في نوعها، فقد حاولنا أن نجد مساحات تكون المقارنات فيها مفيدة . بشكل خاصّ، حاولنا في عملية بناء الدولة أن نقدّر و نقارن مقاييس الدخل ( مثل القوات العسكرية، و الوقت المنصرم، و المساعدات الاقتصادية )، و الخرج ( الانتخابات الديموقراطية، و زيادة متوسّط نصيب الفرد من الدخل القومي) .." .
في الفصول التالية، يتناول الكتاب موضوع وحدة القيادة، في مقابل المشاركة متعددة الجنسيات . ثم يجري مقارنات بالنسبة للمدى الزمني الذي استغرقته عمليات التدخّل المختلفة . و يحدد الكتاب بعض حقائق مستفادة من مجموع تلك التجارب، ثم يحاول أن يطبّق تلك الدروس على العراق . و سنحاول أن نوجز ذلك فيما يلي من حديث .
لكن من الضروري أن نلفت النظر هنا إلى خطأ كبير يقع فيه من وضعوا ذلك الكتاب، و تقع فيه دائما الإدارة الأمريكية : و هو الحديث عن بناء الدول، وإجراء المقارنات بينها، دون الانتباه إلى الأساس المجتمعي لكل دولة من تلك الدول .. نوع العمل السائد في دولة ما، و علاقته بنوع النظم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية التي تناسبه . و قد يكون من المفيد طرح هذا بتوسّع بعد الانتهاء من استعراض الكتاب .
و قبل أن نواصل طرح فصول ذلك الكتاب، نريد أن نشير إلى ما نراه الخطأ الأساسي الذي تقع فيه أمريكا كثيرا، و بالتبعية وقع فيه هذا الكتاب .

مصالح من ؟!..

ما هو جوهر الموضوع ؟ .. الموضوع هو أن أمريكا ـ قبل 11سبتمبر و بعدها ـ تريد تأمين مصالحها في بعض أنحاء العالم، بتغيير أو تعديل النظم الحاكمة في بعض الدول، بما يضمن عدم تهديد هذه المصالح، حاليا أو في المستقبل . و الاسم الحركي المقبول عالميا، و لدى الدول المعنية، هو إعادة بناء الدول، و الهدف الفعلي تغيير النظم الحاكمة لبعض الدول، و فرض قيادات تكون مستعدة لتطبيق استراتيجية المصالح الأمريكية .
و عندما نتحدّث عن المصالح الأمريكية، أرجو ألاّ ينصرف ذهن أحد إلى أننا نتكلّم عن مصالح الشعب الأمريكي، إنّما مصالح طبقة كبار الأثرياء، في مجالات السلاح أساسا، و البترول و المقاولات أيضا . و لا بأس هنا من أن نذكّر القارئ بالتصنيف الحقيقي العلمي للنظام الحاكم في أمريكا، و الذي ينطبق عليه مصطلح ( البلوتوقراطية )، و هي بالقطع ليست ديموقراطية، و لكنها تعني حكم كبار الأثرياء .
عمليات تغيير الأنظمة الحاكمة في العالم، تضع لها أمريكا شعارات مختلفة، تناسب مقتضى الحال . فهي سيادة الحرّية مرة، و تطبيق الديموقراطية مرّة ثانية، و القضاء على أسلحة الدمار الشامل مرّة ثالثة .. ثم القضاء على الإرهاب أخيرا .
و من واقع الكتاب الذي نتحدث عنه، تخفق أمريكا على مدى عدة عقود، في جهودها الميمونة لبناء الأمم، و تحاول إرجاع ذلك الإخفاق إلى أسباب مختلفة، ليس من بينها السبب الحقيقي، و هو :
أن الاعتبار الأوّل، الذي يجب أن ندخله في حسابنا عند تصوّر النظام الأنسب لشـعب ما، هو أن نرصد نوع تكنولوجيات العمل السائدة بين أفراد ذلك الشعب، لكي نعرف أي نوع من النظم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية يناسبه .

و إلى الرسالة التالية، لنستعرض الفصول التالية من هذا الكتاب الكاشف لحقيقة أطماع أمريكا

الأربعاء، مايو ٢٨، ٢٠٠٨

أمريكا .. المؤامرة

المستنقع الأمريكي بالعراق

و خبرة بناء الدول المزعومة

" راند "، مؤسسة أبحاث تابعة للسلاح الجوي، في وزارة الدفاع الأمريكية . و من بين أهم منشوراتها، كتاب " الدور الأمريكي في بناء الدول .. من ألمانيا إلى العراق "، الذي ظهر في النصف الثاني من عام 2003، قامت به إدارة أبحاث الأمن القومي، لحساب مكتب وزير الدفاع، و عدّة جهات أخرى، من بينها وكالات الدفاع و الإدارة البحرية و مجتمع المخابرات الأمريكية . و دراسات راند النظرية تتحوّل إلى استراتيجيات و خطط حربية، تعتمد عليها الولايات المتحدة في حروبها التوسّعية، في إطار الوهم الخطير الذي يعشّش في عقول مجموعة الرجعيين الجدد التي تسيطر على الإدارة الأمريكية .
الكلام في راند يجيء صريحا للغاية، و يساعدنا في سعينا للتعرّف على المخططات الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية، بعيدا عن الأكاذيب المتوالية التي تصدر عن قياداتها .
من ذلك، ما ساعدني شخصيا في فهم جوهر التحركات الأمريكية الجارية تحت شعار الشرق الأوسط الكبير . كتاب صدر عن راند عام 2004، يحمل عنوان " بيئة الأمن المستقبلية في الشرق الأوسط: الصراع، الاستقرار، و التغيير السياسي " .
في ذلك الكتاب، و تحت عنوان " مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط "، ورد الترتيب الحقيقي الصادق لمصالح أمريكا في المنطقة .. و جاءت الديموقراطية بشروط و في آخر القائمة ! . وردت المصالح الأمريكية الست بالترتيب و الأولوية التالية :
أولا : مواجهة الإرهاب، خاصة بعد 11/9 ، حيث تحوّل الصديق و الحليف بن لادن إلى ألدّ الخصوم .
ثانيا : مواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل . ( و هو المبرر الذي استندت الإدارة الأمريكية، كذبا، لغزو العراق )
ثالثا : ضمان البترول بالسعر المناسب .
رابعا : ضمان استقرار الأنظمة العربية الصديقة ( الحديث هنا يكون أساسا عن السعودية و مصر ) .
خامسا : ضمان أمن إسرائيل . ( لاحظ أنه تالي في الأهمية لاستقرار الأنظمة الصديقة !) .
سادسا : تشجيع الديموقراطية و حقوق الإنسان، و لكن بنبرة هادئة، و مع عدم دعم العلاقات مع خصوم النظم الحاكمة الذين يرفعون هذه الشعارات .


فن اغتيال قادة الخصوم !

من بين كتب راند، كتاب بعنوان " عمليات ضد قادة الخصوم " . و يشرح الكتاب تنوّع تلك العمليات بين الهجوم المباشر، و حبك المؤامرات، و إثارة الفتن . و يقول أن الكتاب يتضمّن تحليل 24 حالة من محاولات اغتيال القادة خصوم أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية .. و كيف أن هذه المحاولات لم تنجح إلاّ مع الأدميرال الياباني إيسوروكو ياماموتو، الذي أسقطت طائرته أثناء الحرب . يحكي، ببساطة و براءة، عن محاولات اغتيال فاشلة استهدفت فيديل كاسترو، و معمر القذافي، و صدام حسين، و محمد فرح عيديد، و أسامة بن لادن، و أخيرا و ليس آخرا سلوبودان ميلوسيفيتش ! .
قائمة الكتب طويلة، و هي مفيدة لكل من يريد أن يتعرّف على العقلية البرجماتية (الذرائعية) الأمريكية، التي تؤمن بأن كلّ ما هو نافع، فهو موجود و يعتبر خيرا . كتب عديدة عن مواجهة الإرهاب الجديد، و إرهاب عصر المعلومات، و استغلال الصراعات العرقية، و مصادر الصراع في القرن الحادي و العشرين، و ظهور الخصوم المنافسون، و عدّة كتب عن الصين و ما تشكّله من تهديدات لأمريكا ..

بناء الدول .. آخر صيحة !

آخر صيحة في الإدارة الأمريكية هي بناء الدول . و الكتاب الذي اخترناه من بين كتب بناء الدول ظهر عام 2003 تحت اسم " الدور الأمريكي في بناء الدول.. من ألمانيا إلى العراق " .
و قد جاء في مقدمة الكتاب " هذا التقرير يتضمن نتائج دراسة حول أفضل ممارسات في بناء الدول . هدفه هو تحليل النشاط الأمريكي و الدولي، العسكري و السياسي و الاقتصادي، في أعقاب أوضاع الصراعات، منذ الحرب العالمية الثانية .. و طرح الاحتمالات بالنسبة العمليات العسكرية الأمريكية المستقبلية . هذا التقرير يتضمن الدروس المسـتفادة من كلّ من هذه العمليات، ثم تطـبيقاتها على حالة العراق " .
يقول الكتاب أنّه منذ نهاية الحرب الباردة، استثمرت الولايات المتحدة الأمريكية قدرا ملموسا من الموارد العسكرية و السياسية و الاقتصادية، لإدارة عملياتها في أعقاب الصراعات و القلاقل المدنية . ( هنا قد يتساءل القارئ عن سرّ اهتمام الولايات المتحدة بملاحقة الصراعات و القلاقل في أنحاء العالم الأربعة .. للإجابة، نحيله إلى " مشروع القرن الأمريكي الجديد "، الذي وضعته مجموعة من المحافظين الجدد التابعين للمحافظ الأكبر ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، و الذي التزمت به إدارة جورج دبليو بوش، و الذي يستهدف السيطرة الأمريكية المطلقة على العالم بأكمله، الأصدقاء قبل الأعداء ! ) .

كتالوج التسميات ..

يقول الكتاب " لقد استخدمت عدّة مصطلحات متنوعة، على مدى 57 سنة مضت، لوصف النشاط الذي نسعى إلى تحليله . كان يشار إلى العمليات الألمانية و اليابانية باصطلاح (احتلال) . أما عمليات الصومال، و هاييتي، و البوسنة، فقد كان يطلق عليها بشكل عام اصطلاح ( مهمة حفظ السلام، أو فرض السلام ) . لكن الإدارة الأمريكية الحالية تميل إلى مصطلحات مثل (إحلال الاستقرار) و (إعادة البناء)، عندما تشير إلى العمليات التالية للصراعات في أفغانسـتان و العـراق "، ثم يقفز الكتاب قفزة بهلوانية فيقول " في جميع هذه الحالات كان الهدف هو استخدام القوّة العسكرية لدعم العملية الديموقراطية "(!!!) . و يعود ليستدرك قائلا أن جميع تلك الاصطلاحات التي أوردها لا تعبّر بشكل كامل عن نطاق مثل تلك العمليات .. و لا حتّى تعبير ( بناء الدول )، و إن كان هو الأقرب إلى التعبير الأكثر دقّة .
يختار الكتاب لدراسته سبع حالات تاريخية : ألمانيا، و اليابان، و الصومال، و هاييتي، و البوسنة، و كوسوفو، و أفغانستان . و يقول الكتاب " نحن لم نضمّن الخبرات الاستعمارية للولايات المتحدة الأمريكية في الفليبين، لأن محاولة التحوّل المجتمعي هناك كان يقصد بها أن تنسحب على عدة أجيال .. كما لم نورد تدخلات زمن الحرب الباردة في كوريا و فيتنام و جمهورية الدومينيكان و لبنان و جرينادا و بنما، نظرا لأن عمر تلك التدخلات كان قصيرا (!!)، و كانت أهدافها السياسية محدودة .." .
طبعا الكلام غريب، و إلى حد ما مضحك ..
حرب أمريكا في فيتنام كانت تدخـلا قصيرا، و بأهداف سـياسية محدودة ؟! .. و إذا كان الهدف من هذه الدراسة هو الاعتماد على دروسها المستفادة في الحرب العراقية، فلماذا لم يركّز الكتاب على دروس الخيبة الشاملة في مستنقع فيتنام، لنعقد المقارنات مع خيبتها الحالية في الحرب العراقية ؟ .
من أجل التوصّل إلى أفضل الممارسات التي تقود إلى الديموقراطية، يعمد الكتاب إلى
أولا : وصف طبيعة التسوية التي أنهت الصراع .
ثانيا : وصف أبعاد المشكلة، لتطوير أفضل الممارسات التي نحتاجها، للتعرّف على مدى التحديات التي تواجه الولايات المتحدة، من خلال الحالة التي تجري دراستها .
ثالثا : وصف الترتيبات المؤسسية و السياسات التي جرى تبنيها خلال العملية . و بصفة خاصة دور الولايات المتحدة و غيرها من الدول، و المنظمات الدولية المعنية في عمليات إعادة البناء .
رابعا : امتحان كيفية تطوّر العملية مع مرور الزمن، كيف استقرت بيئة الأمن، أو كيف تدهورت؟، و كيف أصبح الوضع الإنساني، و كيف تأسست الإدارة المدنية، و كيف تطوّرت العملية الديموقراطية، و كيف سارت عملية إعادة البناء الاقتصادي ؟ .
خامسا : تقييم كل عملية، و الاعتماد على مختلف التقييمات في التوصّل إلى أهم الدروس المستفادة، من مقارنة الخبرات السابقة .
أخيرا : تطبيق هذه الدروس المستفادة على حالة عملية العراق . التحـديات التي نواجهها في إعادة بناء العراق . و التوصيات الأكثر فعالية لخلق عراق سليمة اقتصاديا، و ديموقراطية .

و السؤال المطروح .. هل تحقّق ذلك في حالة العراق ؟ .. و لماذا تؤكّد الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها أمريكا في عملية العراق، في التحضير، وفي عهد بريمر، و حتّى الآن، عدم وجود دروس مستفادة ؟ .. على أي حال .. دعونا نستعرض باقي الكتاب، لعلنا نحصل على إجابة شافية .
و رغم أن الكتاب ينطلق من كذبة كبرى، تتصل بالأهداف الحقيقية لأمريكا، من تدخّلاتها و مؤامراتها و حروبها، و يحاول إسباغ صفة إنسانية على المذابح الكبرى التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية في جميع أنحاء العالم، سـعيا وراء المزيد من الأرباح لطبقة كبار أثرياء السـلاح و البترول و المقاولات التي تحكمها .. رغم هذا، فقد يكون من المفيد أن نرى كيف تفكّر الولايات المتحدة الأمريكية في تبرير استغلالها للبشر، داخلها و خارجها .. في الرسالة التالية .

الأربعاء، مايو ٢١، ٢٠٠٨

خنجر فوكوياما في جسد "المحافظون الجدد"

جاء كلينتون.. و انصرف،

وبدأت أكاذيب و فضائح بوش

سقط بوش الأب في الانتخابات، و جاء كلينتون . غير أن شيني طليعة مقاتلي تجار السلاح و البترول لم يصمت .. أسرع في الأيام الأخيرة لوجوده في مكتبه بإجراء تعديلات في خطته السابقة، ليجعلها خفيفة على قلب الإدارة الجديدة .
لكن الإدارة الجديدة رفضت الخطة بلباقة . لقد سعى كلينتون إلى تعظيم وضع القوّة الراهن لأمريكا، و إلى تنمية مصالحها، من خلال الدبلوماسية الاقتصادية، و المؤسسات التعددية الأمريكية ( الخاضعة لسيطرة أمريكا )، و من خلال تجارة حرّة عالمية أوسع، و تنمية التحالفات الصديقة .. باختصار : تحوّلت السياسة الأمريكية من السيطرة على العالم، إلى العولمة .
خلال ثماني سنوات، هي حكم كلينتون، لم تهدأ الجماعة التي كانت على أقصى يمين الحزب الجمهوري، و تمخّض جهدهم عن " مشروع القرن الأمريكي الجديد "، الذي أشرنا إليه . كانت هذه الجماعة تضم مقاتلين أشداء، من أمثال دونالد رامسفيلد، و ديك تشيني، و جيمس وولسي، و بول وولفويتز, و ريتشارد بيرل، و بيل كريستول، و زالماي خليل زاد ( الذي عمل كحاكم مدني على أفغانسـتان بعد غزوها،ثم سفيرا لأمريكا في العراق، و حاليا ممثل أمريكا في الأمم المتحدة )، و آخرين . و قد اختار هؤلاء لافتة " المحافظون الجدد "، باعتبارها أكرم من " الرجعيون الجدد "، وظلوا يترقبون على نار، حتّى انتهت رئاسة كلينتون، و جاءت اللعبة المناسبة، جورج دبليو بوش .

عندما تصبح الكارثة أمنية !

في إدارة بوش الابن تربعت القبيلة بكاملها على كراسي الحكم، و احتلت أهم المناصب، فسيطرت بالكامل على صناعة القرار العسكري . و لكن، من أجل الشروع في حملاتهم العسكرية الخارجية، دون إثارة التحفظات، من داخل الحزب و خارجه، و من العناصر الأشد محافظة مثل الانعزاليين الذين يرفضون توسيع نطاق دور الحكومة الفيدرالية و يعارضون المغامرات العسكرية الخارجية .
في أحد التقارير الرئيسية لجماعة المحافظين الجدد، و الذي وضع في عام 2000، وردت هذه الكلمات بالنص " عملية التحوّل، حتّى لو جاءت معها ببعض التغيرات الثـورية، تنسـحب في الأغلب على مدى زمني طويل .. وما ينقصنا هو حدث حافز كالكارثة .. أشبه ببيرل هاربور جديدة .." .
و تحقّق الأمل المنشود في الحدث المنقذ ..كارثة 11 سبتمبر ! .
هل هي صدفة، أم أن الحجاب قد كشف عن هؤلاء الرجعيين الجدد ؟ .. أم هل نستجيب لآراء العديد من المحللين، الذين يصل بهم الأمر إلى افتراض أن هذه المجموعة كانت تعرف بالكارثة القادمة عن طريق إسرائيل، و أعطت ظهرها حتّى تمّت بنتائجها الكارثية المطلوبة ؟..
بالمناسبة، في موقع على الإنترنيت، شاهدت تسجيلا، نصف الصورة الأيمن فيلم ارتطام الطائرتين بالبرجين، و النصف الأيسر الرئيس بوش مع فصل دراسي للأطفال يقرأ عليهم قصة " العنزة العنيدة "، و يظهر أحد المرافقين و يهمس في أذنه و ينصرف، فيواصل القراءة ..و في أسفل القسمين ساعة تحدد توقيت الأحداث هنا و هناك ثانية بثانية .. لم يظهر على بوش أي رد فعل للحدث الذي أبلغ به، و هذا يعني أحد أمرين : إمّا أنه ممثـل بارع، أو أنه كان يعلم مسبقا ! .
بهذه المناسبة، دعونا نورد لمحة ممّا أورده الإعلام الموالي لتجار السلاح ، و قبيلة المحافظين الجدد، و بالتبعية لجورج دبليو بوش ..
قال بوش للمذيع الشهير لاري كنج، على قناة سي إن إن الموالية للنظام بشدة، مدافعا عن تصرفه، بالبقاء لسبع دقائق خلال الهجوم، و بعد أن عرف بأمره :
" حسن .. كنت لتوّي قد أخبرت عن طريق أندرو كارد أن أمريكا تتعرّض لهجوم . كنت أستجمع أفكاري . و كنت أجلس مع مجموعة من الأطفال .. و وقتها اتخذت قراري بإنهاء هذا الجانب من البرنامج .." .
و في حديث أجراه مع بوش الصحفي سكوت بالترو، من ( ذا وول ستريت جورنال )، قال بوش بالنصّ ما ترجمته " كنت أجلس خارج حجرة الفصل الدراسي، أستعد للدخول إليها، فرأيت طائرة تصطدم بالبرج ـ من الواضح أن التلفزيون كان مفتوحا . و أنا قد تعودت على السفر بالطائرة، فقلت لنفسي : حسن، هاهو طيّار فظيع " .
يعلّق الصحفي قائلا أن بوش بعد عدّة أسابيع من قوله السابق، ردد نفس القصة، في لقاء عام بأونتاريو، كاليفورنيا .. و حقيقة الأمر أن مشاهد ارتطام أول طائرة بمركز التجارة العالمي لم تتم إذاعته على شاشات التلفزيون إلاّ في مساء ذلك اليوم، عندما تم التوصّل إلى لقطات الفيديو التي التقطها الهواة .. و يضيف الصحفي أن جهاز التلفزيون في الحجرة التي كان السيد بوش يجلس فيها، لم يكن حتّى موصّل بالتيار، وفقا لأقوال السيدة ريجيل ناظرة المدرسة ! ..
يعتقد البعض أن هذا التخبّط في أقوال بوش، لا يرجع فقط إلى محاولة الكذب و اختلاق قصّة يراها مناسبة، و لكن لتعاطي بعض العقاقير التي يصفها له أطباء البيت الأبيض، لمواجهة نوبات الاكتئاب الشديدة التي تصيبه .

غنائم أثرياء السلاح

و بدأ أثريـاء السلاح في جمع الغنائم .. و تم رفع ميزانيات التسـليح بأكثر من طريقة، و لأكثر من غرض .. المهم أن تتحوّل بلايين الدولارات إلى خزائن صنّاع السلاح . و جاء هذا بالطبع على حساب الشعب الأمريكي، و نتج عنه تخفيضات جوهرية في ميزانيات الخدمات الأساسية من تأمين اجتماعي و تعليم و صحة . فماذا قال الرئيس بوش في تبريره لهذه الجريمة :
" كنّا نود أن نواصل تمويل التعليم، و عمليات حماية البيئة، و توفير الدواء للمسنين من خلال التأمين الصحي .. و لكن، كما ترون لا توجد أموال زائدة، تبقّت لنا بعد ملاحقتنا للأشرار .. إنّها ليست غلطتنا " .
كلام عجيب .. لو أن الشعب الأمريكي يصدّقه، فألف سلامة على عقول شعوبنا .
المهم، ماذا حدث للمشروعات العديدة التي تراكمت منذ أيام بوش الأب، و حتّى ولاية بوش الابن، مرورا بسنوات حكم كلينتون ؟ . ظهرت خلاصة المشروعات القديمة في مشروع " إعادة بناء الدفاعات الأمريكية : استراتيجية، و قوات، و موارد للقرن الجديد " . و ما هو جوهر هذا المشروع ؟ . بعد خروج الاتحاد السوفييتي من الصورة،الآن هو أكثر الأوقات " مناسبة لفرض المصالح و المبادئ الأمريكية .. التحدي الذي يجيء مع القرن الجديد هو الحفاظ على هذا ( السلام الأمريكي ) و تنميته " . و كيف تتم المحافظة على ذلك السلام الأمريكي و تنميته ؟، تقول الأوراق " بالحرب، و بالتحديد بكسب الحروب المتعددة، التي تحدث في نفس الوقت على نطاق واسع " .
و كانت خيبة الأمل الكبرى في أفغانستان و العراق .. و كان المستنقع الذي يتجاوز مأساوية مستنقع حرب فييتنام، لو أدخلنا في اعتبارنا تغيّر الزمن، و تغيّر وعي الجمـاهير، في أمريكا و في العالم .. هذه النتيجة المؤلمة خيّبت أمل مهندسي الفكر في قبيلة " المحافظون الجدد "، الذين كانوا قد تصوّروا نجاح العمليات العسكرية في أفغانستان و العراق .. و حلموا بالجماهير في كلّ من البلدين تهتف مرحّبة بالحرب الأمريكية .. و تطلب من سحرة النظام الأمريكي أن يخططوا لهم تفاصيل الطريقة المثلى لإعادة بناء هذه الدول المحتلّة، و غيرها من الدول العربية و الإسلامية التي لم تحتل بعد ..
فأصبح شعار إعادة بناء الدول من الشعارات الرائجة في أمريكا .. و قبل أن نستعرض الكتاب الأهم في هذا الصدد لفرانسيس فوكوياما " بناء الدولة"، دعونا نستعرض ما صدر عن (رانـد)، التابعة للبنتاجون، قبل ذلك، باسم " الدور الأمريكي في بناء الدولة، من ألمانيا إلى العراق " .


* * *

و إلى الرسالة التالية، لنرى المستنقع الأمريكي بالعراق، و خبرة بناء الدول المزعومة !

الاثنين، مايو ١٢، ٢٠٠٨

خنجر فوكوياما في جسد "المحافظون الجدد"

لعبة معاداة أوروبا
لتغطية فشل الإدارة الأمريكية

لقد سعى كراوتهامر و آخرون من دعاة الحرب ـ و من أشهرهم روبرت كاجان ـ إلى جعل معاداة أوروبا نوع من الألعاب الرياضية !، هكذا يقول داني بوستيل، و يزعمون أن شكوك أوروبا حول العراق، هو تحوّل في الإدراك، أشبه ما يكون بتحركات القشرة الأرضية، و تؤشّر إلى صدع في العلاقات عبر الأطلنطية، له دلالته الخطيرة .
و هنا، لا يستبعد فوكوياما هذا المنطق نهائيا، لكنه يشير إلى نوع من الخداع و خفّة اليد في إقحام هذه المسألة في النقاش حول سلامة الحرب العراقية . و يقول أن كراوتهامر، لو كان قد حاول عوضا عن توجيه الاتهامات و الإهانات إلى أوروبا، أن " يستمع بعناية إلى ما يقوله فعلا بعض الأوروبيين ( و هو أمر لا يجيده الأمريكيون هذه الأيام )، لكان قد اكتشـف أن الكثير من اعتراضاتهم على الحرب لم تكن معيارية، ذات علاقة بالموضوعات الإجرائية و الأمم المتحدة، بل كانت عقلانية، تتصل بالحكمة الكلّية من غزو العراق .." .
في وجه محاولات كراوتهامر للتغطية على أخطاء الإدارة الأمريكية و جورج بوش و رفاقه، على العكس من ذلك يدعو فوكوياما أمريكا إلى التصدّي لهذه الأخطاء وجها لوجه، مع التأكّد أنّها " خلقت لنا مشكلة شرعية كبرى .. مشكلة يمكن أن تهدد مصالح أمريكا، لزمن طويل قادم .." .
و يضيف فوكوياما أن اهتمامنا بهذا الأمر، ليس فقط من أجل الأسباب الواقعية للأوضاع القادمة ( مثل القدرة على اجتذاب الحلفـاء الذين يقاسمون الأحمال)، و لكن لأسباب مبدئية أيضا ( كالقدرة على القيادة القائمة على جـاذبية من نحن ) .
يدين فوكوياما مجموعة المحافظين الجدد، بأنّها تنظر إلى السياسة الخارجية الأمريكية من خلال منظار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني . و يقول أن كراوتهامر يتبنّى الخط الليكودي المتشدد في إسرائيل، و أن هذا " يلوّن رؤيته و آرائه بالنسبة للطريقة التي يجب أن تتعامل بها الولايات المتحدة مع العرب، بشكل عام ..".

لكي يحترمك العرب !

قال كراوتهامر خلال حوار إذاعي معه أن الطريقة الوحيدة لاكتساب احترام العرب، هي أن تمد يدك إلى أسفل، و تهصر ما بين الساقين ( النص الحرفي لكلامه كان أقل تهذيبا ! .. ) .
و فوكوياما يناقش منطق نقل أسلوب آرييل شارون الفكري إلى الاستراتيجية الأمريكية، فيقول " هل نحن مثل إسرائيل، محاصرون بصراع وحشي مع جانب كبير من العالم العربي و الإسلامي، مع سبل قليلة مفتوحة أمامنا للتعامل معهم، غير القبضة الحديدية ؟ " . و في حوار آخر، تساءل فوكوياما " هل يعقل أن يجري تطبيق استراتيجية وضعتها دولة صغيرة، محاطة بالأعداء من كل جانب، على ظروف دولة هي القوّة العظمى الوحيدة في العالم ؟ " ..
و في دعوته إلى استراتيجية أكثر تركيبا، تتوازن فيها النسبة بين ( العصا و الجزرة )، يقول " اتباع سياسة أمريكية تجاه العالم الإسلامي، شبيهة بسياسة شارون، تعتمد على العصا بشكل كبير، ستتمخّض عن كارثة .. فنحن ليس لدينا ما يكفي من العصي في مخـازننا ممّا ( يجعلهم يحـترموننا ) .. يكرهنا الإسـلاميون ـ بالتأكيد ـ منذ البداية، لكن أحادية القطب التي يرفع كراوتهامر لواءها، قد ضاعفت تلك الكراهية للولايات المتحدة، في المعركة الأكبر لكسب القلوب و العقول .." .

تهويد المحافظين الجدد

لم يكن كراوتهامر يتوقّع مثل ذلك التحوّل الذي طرأ على أفكار فوكوياما في مثل هذا الزمن القصير .
و في ردّه على فوكوياما، عمد كراوتهامر إلى استخدام الشتائم في وصف كلامه " سخيف "، و " أحمق "، و " لا معنى له "، و " متناقض على الإطلاق " . و قال أن فوكوياما قد " لحق بالركب في حماس، متصيدا المصاعب التي نواجهها في العراق لتفنيد أي سياسة سابقة قادتنا إلى هناك .." . و هو يواصل قائلا " أمّا عن ادعاء فوكوياما بأن جهود إعادة البناء بدت عقيمة منذ البداية، فمن الغريب أن فوكوياما لم يتنبّأ بذلك من قبل .. لقد انتظر لمدة سنة، حتى يتشمم اتجاه الريح، لكي يتنبّأ بما هو موجود " .
و عمّا قاله فوكوياما عن دور إسرائيل، يدين كراوتهامر غريمه بالسعي إلى تهويد حركة المحافظين الجدد . و يضيف ـ مراعيا الزمالة القديمة ـ أن أقوال فوكوياما لم تكن بمثل فظاظة أقوال بات بوكانين، و محاظـير محمد الماليزي، و غيرهم الذين يرددون أن " المحافظين الجدد الأمريكيين ( اليهود في نظرهم ) يعملون لحساب إسرائيل، و يسعون إلى اختطاف السياسة الخارجية الأمريكية، و جعلها في خدمة إسرائيل، و المؤامرة اليهودية الأكبر ..". و يستطرد كراوتهامر قائلا " أن تناول فوكوياما كان أكثر عمقا و وضوحا .. لكن الذي يجعل منطق فوكوياما سخيف تماما، أن من يمسكون بزمام السياسة التي ينتقدها شخصيات مثل بوش و بلير و تشيني و رامسفيلد .. كيف أمكن أن يغرقوا في هذا التوحّد الوهمي مع إسرائيل ؟ ..هل هم متخلفون عقليا ؟ أم كانوا منومين مغناطيسيا بواسطة المحافظين الجدد، كي يشتركوا معا في الرباط القبلي ؟".

خنجر فوكوياما

يتساءل الكاتب داني بوستيل " إلى أي مدى وصل خنجر فوكوياما في جسد المحافظين الجدد ؟، هل ما زال هو شخصيا منهم ؟ " . و يضيف قائلا أن فوكوياما يبدو غامضا في هذه النقطة . فموقفه لا يدخل في باب الخلاف بين أفراد العائلة.. و يؤمن داني بوستيل أن قطار فوكوياما قد خرج نهائيا من محطة المحافظين الجدد .
و من ناحية أخرى، يقول جون مائيرشيمير العالم أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو " فوكوياما يفهم بشكل صحيح تماما، أن سياسـة بوش قد حطّت على الصخـور " . و يقول أن فوكوياما قدّم " خدمة كبرى "، بقوله أن اسـتراتيجية المحافظين الجدد للتعامل مع العراق " تحطّمت و احترقت .." . ثم يضيف أن فوكوياما " يجب أن يحظى بالتقدير لأمانته في هذه الناحية ..و لمواجهته الواقع .." .
و يرى مائيرشيمير أن دلالة تدخّل فوكوياما تمضي إلى ما هو أبعد من كونها أول خلاف داخلي بين المحافظين الجدد حول العراق، " و هي ليست فقط لكونها ملاحقة أحد أعضاء قبيلة المحافظين الجد لعضو آخر في القبيلة .. لأن فوكوياما هو أكثر أعضاء القبيلة أهمية .

التهديد بانهيار القبيلة

يتقق مائيرشيمير مع كراوتهامر في أن انتقادات فوكوياما تهدد بتفكيك مشروع المحافظين الجدد . و يوضّح هذا قائلا أن فوكوياما، أوّلا : يتحدّى " دافع أحادية القطب الذي يوحّد ـ بقوة ـ الرؤية العالمية للمحافظين الجدد " . و ثانيا : يشكّك فوكوياما في فكرة أن حرب العراق ظاهرة ديموقراطية متسلسلة في العالم العربي ـ الإسلامي . و يضيف مائيرشيمير أن فوكوياما يتصف " باحترام صحّي قوي لحدود القوة العسكرية . ثم هناك رأي فوكوياما بالنسبة لحدود القدرة على الهندسة الاجتماعية، و آرائه فيما يختص بميل المحافظين الجدد إلى ربط تهديد الأمن الإسرائيلي بتهديد أمن الولايات المتحدة .
هذه المعركة الكلامية بين أكبر قطبين من أقطاب قبيلة المحافظين الجدد، سببت طنينا عاليا في واشنطن . فقد جرت قبل انتخابات الولاية الثانية لجورج بوش . لهذا قال الكاتب دافيد فروم، و الذي كان يقوم سابقا بكتابة خطب بوش، و يعمل حاليا في كتاب حول تاريخ اتخاذ القرار في السياسة الخارجية بإدارة الرئيس بوش .. قال أن ما قام به فوكوياما يمكن أن تكون له دلالة كبيرة في هزيمة بوش .
غير أن كراوتهامر يتجاوز هذا الحد في تقييمه لمعركة فوكوياما فيقول " إننا نحارب الآن حول من الذي سيتحكّم في مصير و قدر الحزب الجمهوري .. و العواقب ستكون كبيرة .." .

ماذا فعلت حرب العراق ؟

يعلّق فوكوياما على هذا كله قائلا " الحماس الذي أبداه الكثيرون ممن يضعون لافتة المحافظين الجدد لحرب العراق، قد كان أكثر إدانة للمحافظين الجدد من جميع ما كان يمكنني أن أقوله .." .
و يضيف قائلا للمحافظين الجدد أن جرعة من التأمّل الداخلي قد تفيدهم، " .. و هذا هو الشيء الذي يصدمني .. و هو نفس الشيء الذي يصدمني بالنسبة للرئيس بوش أيضا . ربما كنت أغفر الكثير لو أن أحدا من هؤلاء الذين كانوا من أشد المدافعين عن الحرب، قد أظهر أي نوع من إعادة النظر و التأمّل فيما حدث، أو أبدوا معرفة بوجود إشكالية ما فيما أوصوا به . . لم يفعل هذا كراوتهامر .. و لا فعله الرئيس بوش، و أرى في هذا خللا كبيرا .. و يبدو لي أنه لن يساعدهم في قضيتهم هذه لو بقوا على إصرارهم، و أنّهم كانوا مصيبين في كل ما فعلوه .." .

بدايات المؤامرة الإمبراطورية
في بدايات تسعينيات القرن الماضي، التقى بوش الأب بمجموعة من الصحفيين، و قال لهم ما معناه .. أنه بعد أن انتهينا من ترتيب البيت ( يعني أمريكا ) من الداخل، علينا أن نعيد ترتيب العالم من حولنا ! .
في ذلك الوقت اعتبرنا أن الأمر مجرّد تمهيد لحرب الخليج .. لم نكن نعلم بالخطط المجنونة التي يدبّرها ديك تشيني، وزير الدفاع في ذلك الوقت، مع مجموعة من الرجعيين المتعصّبين، من الأصوليين اليهود و المسيحيين الصهيونيين .. لم نكن قد سمعنا عن " استراتيجية الدفاع للتسعينيات "، أو عن" مشروع القرن الأمريكي الجديد "، الذي تولّد عن السابق، و عرف بعد ذلك بالاسم الرمزي ( باناك ) .
فما هو جوهر هذه المشروعات الجنونية .. إنّها خطة تسعى بها الولايات المتحدة لحكم العالم .. الغرض المعلن هو التكيّف مع وضع أحادية القطب، التي وجدت أمريكا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنّها في جوهرها قصة سعي للسيطرة التامة على العالم . هذه المشروعات تطالب الولايات المتحدة بأن تتوصّل إلى تفوّق عسكري كاسح، يمنع قيام أي قوى مضادة جديدة تنافسها على المسرح العالمي .. إنّها تطالب بالسيطرة الكاملة على الأصدقاء و الأعداء سواء . و هي لا تقول أن الولايات المتحدة يجب أن تكون قوية، أو الأقوى، بل يجب أن تكون الأكثر قوّة على الإطلاق .
لكن .. لماذا ؟!
يقول الكاتب الأمريكي دافيد أرمسترونج " قبل أن تستهدف الخطة السيطرة، كانت تستهدف المال .." .
عندما تضاءل الخطر السوفييتي بوضوح، انخفض دعم الرأي العام لميزانيات التسلّح الهائلة، التي تبتلع العديد من الميزانيات التي تمس مصالح أبناء الشعب اليومية . و هنا، ظهر دور كولن باول، مستشار الأمن القومي في إدارة رونالد ريجان . لقد استشعر باول التغيرات التي تحدث في الاتحاد السوفييتي، و شأنه شأن ديك تشيني، أراد تفادي التخفيضات في الميزانية العسكرية . و لكي يظهر قدراته أمام الجانب الأهم من حكّام الولايات المتحدة، أعني بذلك كبار أثرياء صناعة السلاح، الذين أتوا به و بريجان و معظم أعضاء المجلسين بفضل إنفاقهم و ضغوطهم و إعلامهم، تفتّق ذهنه عن مبرر لمواصلة تدفّق الميزانيات على خزائن تجار السلاح . قال أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على إدارة القوى القائمة على الملعب العالمي، و عليها أن تبقى كقوّة عسكرية عظمى، حتّى تؤمّن السلام، و تشكّل النظام البازغ بما يتّفق مع المصالح الأمريكية .
و من ناحية أخرى، تحرّك داعية القوّة المفرطة و الانفراد بالسيطرة، بول وولفويتز نائب وزير الدفاع لشئون التخطيط، لمساندة باول و لمواجهة ضغط النواب الديموقراطيين من أجل خفض ميزانية التسـليح . فطرح باول مبدأه الجديد " لم يعد ممكنا للولايات المتحدة أن تحدد احتياجاتها العسكرية على أساس التهديدات المعروفـة . بل على البنتـاجون أن يركّز على تحقيق القـدرة على مواجهة تنوّع واسـع من التحديات غير المعروفة .." . هذه الفكرة التي أسعدت تجار السلاح، أصبحت ركنا أساسيا في المشروعات الجنونية التالية

على الفور قام تشيني بدمج أفكار باول و وولفويتز، و وضع ما أسماه الاستراتيجية الواقعية . و تقدّم الثلاثة إلى الرئيس بوش الأب، و بعد عدّة أسابيع كشف بوش الأب النقاب عن الاستراتيجية الجديدة .. ثم سقط بوش الأب، و جاء كلينتون ..فماذا فعل ديك تشيني ؟..إلى الرسالة التالية .

الجمعة، مايو ٠٢، ٢٠٠٨

أمريكا .. إلى أين ؟ !

المفكّـرون العرب ..

و الوقوع في غـرام المصطلحات
من "العولمة" إلى "نهاية التاريخ"

منذ أكثر من ربع قرن، عندما بدأت تعريف القارئ العربي بمجتمع المعلومات، و ما يجب علينا أن نفعله لكي نسهّل لحاقنا بركب التطور الذي يمر به المجتمع البشري .. منذ ذلك التاريخ، تحدثت عن عنصر هام من عناصر عصر المعلومات، هو خروج الإنسان من نطاق الواقع المحلّي أو الإقليمي أو القومي إلى الواقع العالمي (Globalizm ) . كنت أترجم المصطلح إلى العالمية ( بمعنى الانتماء إلى العالم )، بينما ترجمه آخرون إلى الكوكبية ( بمعنى الانتماء إلى كوكب الأرض ) .. إلى أن ظهر اصطلاح " العولمة "، الذي قاومته لبعض الوقت ( ربّما لخلاعته ! )، ثم رضخت لإجماع الآخرين ..
عندما استقرّ اصطلاح " العولمة "، كانت كتائب المفكرين في معقل الرأسمالية الأمريكية الحاكمة، و التي تنتمي إلى جماعة " المحافظون الجدد "، قد طرحت تفسيرا انتهازيا للعولمة، يقوم أساسا على دعم مصالح كبار الأثرياء في الولايات المتحدة و العالم، من خلال الاتفاقيات المضللة، ذات الظاهر البريء
و قد وقع معظم المفكرين العرب في غرام المصطلح، مصطلح " العولمة " .. يختالون باستخدامه دون انتباه لعملية التزوير الفكري التي يتضمنها تفسيره الرأسمالي ..
ثم انهالت المصطلحات، فظهر " نهاية التاريخ " لفرانسيس فوكوياما ، و " صراع الحضارات " لصمويل هنتينجتون .. و تبارى كتابنا و مفكرونا في ترديد المصطلحان، على سبيل التأنّق الفكري، دون الانتباه إلى الأجهزة و الجهات التي احتضنت و شجّعت أمثال هذين الكاتبين على طرح و إشاعة المنطق الذي يهيئ الرأي العام الأمريكي و العالمي، لتقبّل الإجراءات العسكرية الأمريكية، التي تتم لحساب كبار الأثرياء الذين يحكمون أمريكا، و التي تستهدف تنشيط تجارة السلاح، و احتكار منابع البترول، و إقامة القواعد العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء العالم .. بحيث تحقق الولايات المتحدة أحلامها المعلنة حول " الإمبراطورية الأمريكية "، القادرة على فرض سيطرتها على الأصدقاء قبل الأعداء ..
و قد خصصت كتابا، يتعقب أحد خيوط هذه المؤامرة، من خلال كتابات فرانسيس فوكوياما .. منذ " نهاية التاريخ "، و حتّى كتابه " أمريكا في مفترق الطرق "، مرورا بكتابه " بناء الدول " .. أحاول فيه أن أكشف المغالطات التي لم ينتبه إليها معظم الذين فرحوا بترديد المصطلحات و العناوين ..

شرخ في جبهة الرجعيين الجدد !

قبل أن يتسلّم بوش ولايته الثانية، دارت معركة مجالها أقطاب التنظيم الرجعي، الذي يطلق أصحابه على أنفسهم اسم " المحافظون الجدد "، و الذي يتحكّم في عقل و أفكار و مشاعر جورج دبليو بوش .. و هكذا بدأ بوش ولايته الثانية بداية غير متفائلة .
في موقع ( الديموقراطية الصريحة ) بالإنترنيت، استعرض داني بوستيل الصراع المحتدم بين قطبين كبيرين من أقطاب المحافظين الجدد، هما فرانسيس فوكوياما، صاحب كتاب "نهاية التاريخ" المثير للجدل، و تشارلز كراوتهامر أكبر المتحمسين لغزو العراق، و هو الذي أطلق على نهاية الحرب الباردة تعبير " تفوّق القطب الواحد"، الذي تحوّل عام 2002 إلى " عصر القطب الواحد " .
يقول بوستيل أن تعبير "المحافظون الجدد" قد سلّطت عليه الأضواء في السنوات الأخيرة، أكثر بكثير ممّا حظي به طوال 30 سنة من تاريخه . و قد تضاعف نفوذ هذه المجموعة أو الاتجاه أو الحركة، بعد أحداث 11 سبتمبر، و كانت حرب العراق هي التتويج الفعلي لجهودها .
لقد واجهت هذه المجموعة، التي تستولي حاليا على الرئيس الأمريكي، و يحتلّ أفرادها المراكز الرئيسية في الإدارة الأمريكية .. واجهت انتقادات مريرة من كافة عناصر الطيف السياسي في الولايات المتحدة، و خاصة من أصحاب الفكر اليساري الأمريكي . و رغم تجاهل المحافظون الجدد لأنواع النقد التي توجّه إليهم، فإن الهجوم الوحشي عليهم جاء أخيرا من اليمين ! .
و لعل أحدث هجوم على حرب العراق، و على مهندسيها من المحافظين الجدد، قد أصاب أهدافه بقوّة غير مسبوقة . ذلك لأن النقد الذي قام به فرانسيس فوكوياما نظر إليه على اعتباره مسألة داخلية.. و ليس فقط لأن فوكوياما يعتبر من أشهر منظري المحافظين الجدد، و لكن لأن مناقشته لمسائل جوهرية بالنسبة لحرب العراق ظهرت في عقر دار المحافظين الجدد، على شكل 12 صفحة في مناقشة المسألة العراقية، ظهرت في صيف 2004، منشـورة في الجريدة المعبّرة عن فكر المحافظين الجدد ( ذا ناشيونال انتريست ) .
لقد كان مقال فوكوياما عبارة عن هجوم عنيف على واحد من أكبر قيادات المحافظين الجدد، هو تشارلز كراوتهامر، " الذي أصبح تفكيره الاستراتيجي شعارا لمعسكر المحافظين الجدد ، و الذي كانت فكرة الغزو العراقي في بؤرته . كان كراوتهامر أحد أكثر المنادين بفكرة الحرب حماسا .
في فبراير 2004، ألقى كراوتهامر خطابا في تجمّع المحافظين الجدد بمعهد " المشروع الأمريكي " بواشنطن، قدّم من خلاله دفاعا قويا عن حرب العراق من خلال مضمونه الخاص بأحادية القطب، أو ما يطلق عليه حاليا تعبير " الواقعية الديموقراطية" ! .
كان فوكوياما من بين حضور ذلك الخطاب .. و لم يعجبه ما سمع !..
بعد ذلك، كتب فوكوياما في جريدة المحافظين الجدد يقول أن خطاب كراوتهامر مقطوع الصلة بالواقع "..عند قراءة كراوتهامر، يسود الفرد انطباع أن حرب العراق ـ التي تعتبر تطبيقا حرفيا لأحادية القطب الأمريكية ـ كانت نجاحا غير مسبوق، ثبت من خلاله صحّة كلّ الافتراضات و التوقّعات التي قامت عليها الحرب .. و لن تجد في طرح كراوتهامر أي إشارة ـ و لو عابرة ـ عن الحقائق الجديدة التي كشفت عنها الأيام، خلال الاحتلال .." .
و يواصل فوكوياما مناقشته لمنطق كراوتهامر فيقول إنه " غير واقعي بالمرّة، فيما يعكسه من مبالغة في قوّة الولايات المتحدة، و في قدرتنا على التحكّم في أحداث العالم ... و من بين وجهات النظر المختلفة التي أصبحت الآن مرتبطة بالمحافظين الجدد، أغربها بالنسبة لي هي الاقتناع بأن الولايات المتحدة يمكنها تحويل العراق إلى ديموقراطية على النسق الغربي .. ثم المضي من ذلك إلى تحويل دول الشـرق الأوسط الكبير إلى الديموقراطية .." .
و يواصل فوكوياما متسائلا " إذا لم يكن بإمكان الولايات المتحدة أن تقضي على الفقر داخلها، أو أن تقوم بتجويد نظامها التعليمي، كيف تتوقّع أن تطبّق الديموقراطية على جانب من العالم، قد عمد إلى مقاومتها بعناد، و هو غارق في مناهضة أمريكا .." .

التقييم العام لا يسرّ !

و يطرح فوكوياما بعد ذلك جانبا من أفكاره التي بلورها في كتابه الأخير ( بناء الدول .. الحكم و النظام العالمي في القرن الحادي و العشرين )، و الذي سنتناوله بالتفصيل فيما يلي من حديث، لأهميته القصوى بالنسبة لنا، فهو يرسي أسسا جديدة لكيفية قيام الولايات المتحدة بإعادة بناء حياتنا، وفقا للنموذج الأقرب لمصالحها و أحلامها، و الذي تحاول أن تقنع العالم أنه الأفضل للدول النامية .
يقول " لقد انشغلت أمريكا بما يصل إلى 18 مشروع لبناء دول، بين فتحها للفليبين عام 1899، و الاحتلال الحالي لأفغانستان و العراق .. و التقييم العام لذلك لا يسرّ .." .
و عن احتلال العراق، يقول فوكوياما " منذ غزو الولايات المتحدة للعراق، وحقيقة الأمر تقول أننا نبدو كالضيف الثقيل الذي لم يوجّه إليه صاحب البيت الدعوة إلى حفل العشاء .. لقد كنّا كعادتنا ناقصي كفاءة، و غير قادرين على تنظيم أنفسنا في التخطيط للقيام بمهمة إعادة البناء، الأمر التي كان يمكن التنبؤ يه مسبقا، و الذي ما كان يجب أن يفاجئ أي شخص يعرف التاريخ الأمريكي .." .
و يختم فوكوياما كلامه في هذه النقطة قائلا أن أمريكا " تحتاج أن تكون أكثر واقعية بالنسبة لقدراتها في مجال (بناء الدول )، و أكثر حرصا عند التصدّي لمشروعات ( البناء الاجتماعي ) الكبيرة، في أجزاء من العالم لا تفهمها جيدا .." .

و إلى الرسالة التالية، لنرى ما يقوله فوكوياما عن لعبة معاداة أوروبا، بكل ما يحوطها من نزق