الخميس، أكتوبر ٣٠، ٢٠٠٨

الكتاب الثاني لفوكوياما


التاريخ الحقيقي

ليس سير ملوك و معارك

في الفصل الأوّل من الكتاب، و الذي يحمل عنوان " الأبعاد المفتقدة للحكم "، أدهشني في حديث فوكوياما عن الدولة، أن أراه غارقا في بحث أسباب الظواهر المتصلة يتحوّل طبيعة الدولة، و واقفا عند حد الحروب و الأنظمة و الممالك، دون أن تكون لديه رؤية شاملة واضحة عن التحوّلات التي طرأت على الدولة و الحكم، عند التحوّل من الحياة الزراعية إلى الحياة الصناعية، ثم ما استجدّ بتحولنا إلى مقتضيات عصر المعلومات .
لقد كتبت كثيرا عن غياب الرؤية الشاملة للتحوّلات المجتمعية، في كتاباتنا عن التحولات التي تطرأ على الدولة، و السيادة، و التعليم، و الإدارة، و الاقتصاد، و الإعلام، و الأسرة .. بل التي تطرأ على القيم و المبادئ و الأخلاق و العقائد . لكنّى لم أكن أتصوّر أن تغيب هذه الرؤية عن أستاذ جامعي مثل فوكوياما، ذاع صيته في الغرب و الشرق . لكي نفهم هذا، دعونا نستعرض ما قاله في الفصل الأوّل بعنوان " الخلاف حول دور الدولة " .
يقول فوكوياما أن السياسة تشكّلت على مدى القرن العشرين، من خلال الجدل حول الحجم و القوّة المناسبين للدولة . كان حجم نشاط الدولة، فيما عدا النشاط العسكري، محدودا .. في بدايات القرن لم تكن هناك ضرائب دخل، أو برامج لمكافحة الفقر، أو قواعد لسلامة الغذاء . و مع تقدّم القرن، و من خلال الحروب، و الثورات، و نوبات الكساد، ثم الحرب ثانية، اختلط النظام الليبرالي للعالم، و حل محل دولة الحد الأدنى الليبرالية، في معظم أنحاء العالم، أنماط من الدول أكثر مركزية و نشاطا .
الذي لم ينتبه له فوكوياما، نتيجة لغياب الرؤية الشاملة لتطور الأسس المجتمعية خلال القرن العشرين، هو أن التحولات التي يحكي عنها، و خاصة شيوع المركزية الممعنة في كل شيء، هو أحد أهم المبادئ التي قام عليها العصر الصناعي . و أن القرن العشرين شهد في معظمه السيطرة القوية لمبادئ عصر الصناعة، كما شهد في نهاياته اهتزاز تلك المبادئ، و تشكّل بدايات مبادئ عصر المعلومات .
و من هنا، فلا معنى لمحاولة التمييز بين الدول الرأسمالية الليبرالية، و الاشتراكية الشمولية، لأن البنية الأساسية في كل من النظامين واحدة، و خاضعة لمقتضيات طبيعة العمل و الإنتاج و النشاط الاقتصادي في المجتمع الصناعي . جميع الدول الصناعية، سواء كانت رأسمالية أم اشتراكية، ليبرالية أم شـمولية، عمدت خلال عصر الصناعة إلى ترتيب حياتها وفق نظم تقوم أساسا على مبادئ محددة، من بينها المركزية الممعنة، التي يلاحظ فوكوياما سيادتها في القرن العشرين، قرن نضوج المجتمع الصناعي، و بدايات اهتزازه نتيجة لاندفاع ثورة المعلومات .

الدولة و مبادئ عصر الصناعة

المبادئ الأساسية التي نبعت من طبيعة العمل الصناعي، و اقتضتها مصالح الاقتصاد الصناعي، سنجدها بنفس القوّة تقريبا في جميع الدول الصناعية، مهما اختلفت تصنيفاتها . و أهم هذه المبادئ :
• النمطية، و التوحيد القياسي لكل شيء . و هو المبدأ الذي نبع من طبيعة النشاط الصناعي، ثم انسحب على كلّ شيء، حتّى على البشر . و ساعدت وسائل الإعلام الجماهيري، في الغرب و الشرق على تكريسه .
• التخصص، بعد انسحاب الحياة الزراعية، أصبح عنصرا مشتركا في البلاد الاشتراكية و الرأسمالية معا، فظهرت موجة صاعدة من الإخصائيين الذين يتحكّمون في مكل نشاط .
• التركيز، بعد انفصال الإنتاج على نطاق واسع، عن التوزيع و الاستهلاك على نطاق واسع، ظهرت السوق كوسيط، و ساد مبدأ التركيز . تركيز السكن في المدن و قريبا من مراكز الإنتاج الصناعي، و تركيز التلاميذ في المدارس، و المرضى في المستشفيات .. و أيضا تركيز رؤوس الأموال في شركات و احتكارات كبرى .
• المركزية، وقد سعت جميع الدول الصناعية إلى تطويرها . و قد جرى خلق أشكال جديدة من التنظيم مبنية على مركزية المعلومات و القرارات . و هكذا ظهرت مركزية السياسة، فوضعت جميع مفاتيح القوّة في يد واشنطن و موسكو و نظائرهما، و احتكرت هذه المراكز الكبرى سلطة اتخاذ القرار المركزي، و انتقلت السلطة الفعلية من الكيان القضائي و التشريعي، إلى أكثر السلطات الثلاث مركزية : الأجهزة التنفيذية .
هذه هي المبادئ التي سادت معظم القرن العشرين، و بدأت تهتز قوائمها في نهايته، مع اندفاع ثورة المعلومات .

تاتشر و ريجان

و نتيجة لغياب الرؤية الشاملة لطبيعة ما جرى في القرن العشرين، يميل فوكوياما إلى تحليل و شرح الأوضاع، عن طريق ربطها بشخصيات و أحداث جزئية . على سبيل المثال يقول عن نمو الدولة و تضخّمها في ثمانينيات و تسعينيات القرن الماضي " هذا النمو، و ما ترتّب عليه من عدم كفاءة و عدم تقدير للعواقب، قاد إلى ردود فعل عنيفة، على صورة (التاتشرية )، و ( الريجانية ) " . و هو لا ينتبه إلى القوّة المحرّكة الأساسية في هذين العقدين، و التي هي الاندفاع الشديد لثـورة المعلومات، و ما فعلته تكنولوجيات المعلومات المتطوّرة، من تغيرات متلاحقة اهتزّ لا النظام المركزي التقليدي، و حكومته المركزية، و بدأت ردود الفعل الطبيعية، في محاولات تخلّص الدولة من ترهّلها، بتحجيم كياناتها، و تطبيق اللامركزية في مؤسساتها .
الذي نعنيه أن التغيّرات الجذرية المصاحبة لبدايات عصر المعلومات، فرضت شكلا جديدا للدولة و لطبيعة الممارسات السياسية، تختلف عن نظائرها على مدى قرنين سابقين من عصر الصناعة . و كلن لتلك التغييرات الأثر الأكبر على الدول الشمولية، التي توالت انهياراتها بمعدلات أسرع من الدول التي لم تكن تأخذ يتلك المركزية الممعنة .
ثم يتكلّم فوكوياما عن جهد المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي، و البنك الدولي، و كذلك جهود الحكومة الأمريكية، التي تمخّضت عن مجموعة معايير تهدف إلى تخفيض درجة تدخّل حكومات الدول النامية في الشئون الاقتصادية، ضمن جهود هذه المؤسسات لإعادة بناء تلك الدول على أساس سليم و معاصر .
و يبدي فوكوياما اندهاشه من الهجـوم الذي ووجهت به هذه الجهود و المحاولات، خاصّـة في بداية القرن الحالي، ليس فقط من المعارضين لجهود العولمة، و لكن أيضا من النقّاد الأكاديميين، أصحاب المكانة العالية في مجال الاقتصاد .
و يحاول فوكوياما أن يدافع عن تلك المؤسسات، التي يراها الكثيرون ذات أهداف خفية مدمّرة للدول التي تتورّط في التعامل معها، بأن العيب يكمن في القطاع الحكومي لتلك الدول الذي يعوق نموّها .

مؤامرات البنك و الصندوق

و لا أجد ردا على هذا، أكثر إقناعا ممّا اعترف به جون بيركينز، الذي عمل ضمن خطط وكالة الأمن الوطني الاستخبارية، لبناء الإمبراطورية الأمريكية، في وظيفة " قنّاص اقتصادي" .. كان عليه أن يقرض الدول النامية قروضا هائلة، أكبر من أن تستطيع سدادها، و " كان على تلك الدولة أن تعيد 90% من القرض إلى شركة أو شركات أمريكية ( هاليبورتن أو بيكتيل مثلا)، لإنشاء مشروعات بنية تحتية . و كانت تلك المشروعات لا تفيد سوى قلّة من العائلات الأكثر ثراء في تلك البلاد ..كانت الدولة تدفع نصف دخلها القومي لتغطية الدين، و عندما تعجز عن الدفع، تستولي الولايات المتحدة على ما تطمع فيه من موارد تلك الدولة، كالبترول و الغاز .. و تصبح الدولة عبدة للإمبراطورية الأمريكية " .
و يقول بيركينز أن عمل القناص الاقتصادي لصيق جدا بالبنك الدولي، و صندوق النقد الدولي، اللذين يوفّران معظم الأموال .. لتوريط الدول و ليس لمساعدتها على بناء ذاتها .

أيهما أنفع للدولة : اتّساع نشاطها، أم قوّة مؤسساتها ؟

يطرح فوكوياما سؤالا هاما : أيهما أنفع و أجدى للدولة و لاقتصادها، أن يتّسع نطاق نشاطاتها، و تتعدّد الوظائف التي تقوم بها، و تتزايد الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، أم أن تتدعّم سلطة الدولة و سيطرتها، و قدرتها على التخطيط و التطبيق و فرض القوانين بأمانة و شفافية، أو ما يطلق عليه فوكوياما تعبير (القدرة المؤسسية للدولة) .
و كمثال تطبيقي على هذا، يقول أن الولايات المتحدة دولة أقل اتساعا في نطاق نشاطاتها من فرنسا أو اليابان . و لكن من ناحية أخرى، تعتمد الولايات المتحدة على نمط أعلى من البيروقراطية، قياسا على العديد من الدول النامية .
و يقول فوكوياما " يجب أن يكون واضحا، إمكان تحرّك الدول، و تغيير موقعها، بالنسبة للحدين المشار إليها، اتساع نطاق النشاط، و القوة المؤسسية .. " . و يضيف أن فوائد هذا التصوّر، هو توضيحه لطبيعة التغيير الديناميكية في الحكم . فالاتحاد السوفييتي السابق، تحوّل من دولة ذات نطاق متّسع للغاية في نشاطاتها ( مثال ذلك حظر الملكية الخاصة )، و ذات قوّة متوسطة في قدراتها الإدارية، إلى دولة أقل نطاقا بكثير في وظائفها، و في نفس الوقت على المستوى الأقل بالنسبة لقوّتها المؤسسية .
و يضيف أن أجندة التنمية لدى الكثير من المؤسسات المالية الدولية تحوّلت بشكل مؤثّر خلال التسعينيات من القرن الماضي . و هو يشير هنا إلى ما يطلق عليه " اتفاق واشـنطن "، و الذي كان عبارة عن مجموعة معايير سياسة اقتصادية، كاملة و معقولة، استهدفت في تصميمها أن تقود الدول في اتجاه خفض تعرفة الحماية، و المضي في الخصخصة، و الإقلال من النظم المقيّدة.. إلى آخر ذلك .
و هو يشرح هذا قائلا أنه لا ضرورة تحتّم على حكومة البرازيل إنشاء مصانع للصلب، و لا أن تسعى حكومة الأرجنتين إلى صناعة سيارات محلية . و في العديد من الحالات، كانت النصيحة التي توجّه إلى الدول التي تبدأ دخولها إلى السوق، هي أن تتحرّك بأسرع ما تطيق، تجاه الدولة ذات النطاق الأصغر .
مشكلة العديد من الدول، أنّه خلال عملية تضييق نطاق نشاط الدولة، أنها إمّا أن تقلل من قوة و سلطة الدولة، أو تولّد الحاجة إلى أنماط جديدة من قدرات الدولة، و التي تكون إمّا ضعيفة أو غير موجودة . فالتقشّف الذي تتطلّبه سياسات تحقيق التوازن و إعادة البناء، يتحوّل في بعض الدول إلى مبرر لتخفيض قدرات الدولة .

و إلى الرسالة التالية، لنرى النتيجة العكسية للمعونات