الأحد، ديسمبر ٠٧، ٢٠٠٨

الكتاب الثاني لفوكوياما


نتيجة عكسية للمعونات

حكم القانون أهم من الخصخصة


و يقول فوكوياما أن ما حدث في أفريقيا الوسطى، في الربع الأخير من القرن العشرين، كان يسمح بأن توصف نظم دول وسط أفريقيا باعتبارها نظم أبوية جديدة ( نيو باتريمونيال )، حيث تستغل فيها السلطة لخدمة فئة من المنتفعين، حول قيادات الدولة . في بعض الأحيان، كما في حالة زائير تحت حكم موبوتو سيسي سيسيكو، حيث قاد ذلك النظام إلى نهب بعض الأفراد جانب كبير من ثروات البلاد، و جرى استخدام القطاع العام للاستيلاء على الملكيات العامة، لحساب عائلة أو قبيلة أو منطقة أو عرق معين .
و يضيف قائلا " الطبيعة المزدوجة لمثل هذه الدول الأفريقية، جعلت المعونات الممنوحة من أجل تحقيق الاستقرار، و تطبيق برامج التكيّف البنيوي، خلال ثمانينيات و تسعينيات القرن الماضي، تقود إلى نتائج عكسية و غير بنّاءة .. و تدهورت بشكل مأساوي ـ على مدى عشرين سنة ـ الاستثمارات في البنية التحتية الأساسية، مثل الطرق و الصحة العامة، و حدث نفس الشيء بالنسبة لاستثمارات التعليم الأولي و الزراعة . و في نفس الوقت، تزايد الإنفاق بشكل دراماتيكي على ما يمكن أن نطلق عليه مصاريف السيادة، مثل القوات العسكرية، و الخدمات الدبلوماسية، و الوظائف المخصصة لمكتب الرئاسة.. " .
و هو يعطي مثالا على ما حدث في كينيا، حيث زاد عدد العاملين في مكتب الرئيس من 18213 موظف عام 1971، إلى 43230 موظف عام 1990 . و يقول أن أحدا من المقرضين الدوليين لم يكن، في أي وقت، يريد أن يصل إلى هذه النتيجة، إلاّ انهم لم يكونوا قادرين على إقامة البنية بطريقة تمنع الوصول إلى هذه النتائج السلبية .
و مع ذلك، فالكثيرين من دعاة " اتفاق واشنطن " يقولون الآن أنّهم (بالتأكيد) كانوا يفهمون أهمية المؤسسات، و حكم القانون، و الترتيب السليم للإصلاحات ! .

الخصخصة في روسيا

ثم ينتقل فوكوياما إلى مناقشة ما حدث في روسيا و باقي الدول الاشتراكية، فيقول أن المشكلة بالنسبة لروسيا و غيرها من الدول الشيوعية سابقا ذات طبيعة مختلفة .
و رغم أن خصخصة المشروعات المملوكة للدولة كانت، بكل تأكيد، هدفا مناسبا للإصلاح الاقتصادي، لكنها كانت تتطلّب لتطبيقها درجة ملموسة من المقدرة المؤسسـية، حتى يمكن وضعـها موضع التنفيذ بشكل جيد . فالخصخصة تخلق، بالضرورة، حالة هائلة من عدم التناسق المعلوماتي، و تكون مهمة الحكومات أن تعمل على تصحيح ذلك . يجب أن يتم تحديد الأصول و حقوق الملكية بشكل دقيق، و تقييمها ماديا، و أن يتم نقلها بشفافية، مع حماية حقوق الأقلية الجديدة من حملة الأسهم، من جميع عمليات التحايل و التزوير .
من هذا، يستخلص فوكوياما أنّه بينما تتضمن الخصخصة خفضا في نطاق وظائف الدولة، فهي تتطلّب في نقس الوقت أسواقا فاعلة و نشطة، و درجة عالية من قدرة الدولة على فرض النظم . و يقول أن هذه القدرة كانت تنقص روسيا، ممّا قاد إلى أن رست العديد من الأصول المخصخصة بعيدا عن أيدي المستثمرين القادرين على جعل هذه الأصول مثمرة .
و هو يورد اعترافا من أكثر أنصار السوق الحرّة تعصبا، ميلتون فريدمان، قال فيه أنه قبل عشر سنوات، كانت لديه ثلاث كلمات للدول التي تتحوّل عن الاشـتراكية، هي " خصخص، خصخص، خصخص "، ثم يستدرك قائلا " لقد كنت مخطئا، لقد تبيّن أن حكم القانون يمكن أن يكون أكثر أهمية من الخصخصة " .

أيّهما أجدى اقتصاديا ؟

ثم يطرح فوكوياما سؤالا هاما : من وجهة نظر الكفاءة الاقتصادية، هل يكون الأهم تخفيض نطاق الدولة، أم زيادة قوّة الدولة ؟ .
توجد أدلة على أن قوة مؤسسات الدولة ـ بشكل عام ـ أكثر أهمية من اتساع نطاق وظائف الدولة و المهام التي تتكفّل بها . و يرى فوكوياما أن السرّ في تفوّق أداء دول شرق آسيا، مقارنة بدول أمريكا اللاتينية، على مدى السنوات الأربعين السابقة، يرجع في الأغلب إلى النوعية المتميزة لمؤسسات الدولة في شرق آسيا، أكثر من أي فروق في نطاق وظائف و مهمات تلك الدول .
و يقول فوكوياما أن الاهتمام بقوّة الدولة، الذي نراه تحت مختلف العناوين، مثل " الحكم "، و " قدرة الدولة "، أو " النوعية المؤسسية "، كنا نراه دائما يتردد حولنا، تحت عناوين مختلفة في اقتصاديات التنمية . و يشير فوكوياما إلى كتاب ( الطريق الآخر ) لمؤلفه هيرناندو دي سوتّو، الذي نجح في تذكير مجتمعات
التنمية بأهمية حقوق الملكية التقليدية، و تذكيرهم ـ بشكل أوسع ـ بفوائد الأداء الجيد للمؤسسات القانونية، في مجال السعي إلى الكفاءة العالية .
لقد أوفد دي سوتو باحثيه إلى عدّة دول، لمعرفة كم يحتاج استصدار تصريح لنشاط اقتصادي صغير من وقت و جهد و مال . في ليما عاصمة بيرو استغرقت العملية 10 شهور، و المرور على 11مكتب، و دفع ما يوازي 1231 دولار . نفس هذه العملية في الولايات المتحدة و كندا تستغرق يومان فقط .

الحكمة المعتمدة الجديدة

لماذا هذا الاهتمام بكتابات فوكوياما، و إصدارات مؤسسة " راند " التابعة للبنتاجون الأمريكي ؟ .. لأن الفكر الذي تحمله هذه المطبوعات ما يلبث أن يطبق علينا في شكل مبادرات من الرئيس بوش، أو تحذيرات وزيرة خارجيته كونداليزا رايس .. و موضوع " بناء الدولة " هو الشغل الشاغل ـ حاليا و مستقبلا ـ للإدارة الأمريكية، و الدول المعنية في هذا السياق : هي أساسا معظم دول العالم الثالث، و بصفة خاصة الدول الإسلامية و العربية ..
يقول فوكوياما أن مجتمع سياسات التنمية يجد نفسه في وضع متناقض .. فمرحلة ما بعد الحرب الباردة كانت بداياتها تحت السيطرة الثقافية لرجال الاقتصاد، الذين تحمّسوا بشدة لليبرالية و الاتجاه إلى الدولة الأصغر . و بعد ذلك بعشر سنوات، طلع علينا العديد من رجال الاقتصاد الذين قالوا بأن من بين المتغيرات الأكثر تأثيرا على التنمية، ما يتصل بالمؤسسات و السياسات، و ليس الاقتصاد بالمرة ! .
و هذا يعني أن بعدا كاملا مفقودا في مسألة الحكم و الدولة، نحتاج إلى استكشافه .. و ركن من أركان التنمية جرى تجاهله من جانب التركيز العقلي الأحادي في مجال الدولة . لقد وجد العديد من الاقتصاديين أنفسهم ينفضون التراب عن الكتب القديمة حول الإدارة العامة، التي تعود إلى خمسين سنة مضت ..أم أنّهم قد سعوا إلى إعادة اكتشاف العجلة لتطوير استراتيجيات مضادة للفساد .
هذا الوضع المتناقض، الذي يشير إليه فوكوياما، يرجع أساسا لقصور في منهج البحث .. يرجع إلى أحادية التناول، الذي يقود إلى مثل هذه الثنائيات : الاقتصاد أوّلا، أم السياسة أوّلا ؟ .. و بالمناسبة قصور المنهج هذا نشهد أمثلة عديدة و متكررة عليه في مصر حاليا، عندما يتناقش المفكرون و السياسيون في الإصلاح . و مرجع ذلك إلى غياب الرؤية المستقبلية الشاملة، القائمة على فهم طبيعة مسار التطوّر في المجتمع العالمي، و الخريطة الفعلية للمجتمع الذي يسعى للإصلاح .
تلك الرؤية هي التي ستتيح التوصّل إلى الاستراتيجية الشاملة المتكاملة، التي تنبع منها الخطط، و تتحدد توقيتاتها .. سنكتشف وقتها أن ما هو مطلوب أوّلا، هو السياسة و الاقتصاد و المجتمع و القيم و المبادئ، جميعا، في إطار الرؤية المستقبلية .

و إلى الرسالة التالية لنستعرض أهمّية المؤسسة، و معناها .