الثلاثاء، فبراير ٠٣، ٢٠٠٩

الكتاب الأخير لفوكوياما

فوكوياما و كتابه الأخير

بناء الدولة ..

من الحروب إلى البنك الدولي !

عندما تغيب الرؤية الشاملة، تخضع الاستنتاجات للغرض و المزاج و خليط المعلومات المتنافرة، التي لا تمضي في سبيلها الطبيعي لتتحوّل إلى معارف . و من الممكن أن نفهم هذا بوضوح أكبر، لو طبقناه على ما يقوله فرانسيس فوكويامـا عن الدولة القومية و مؤسساتها، في كتابه الأخير " بناء الدولة " .
يقول " و بينما كانت المؤسسة أمرا عقلانيا، فإنها نشأت تاريخيا من مجموعة ظروف عارضة، وغير عقلانية، لا يمكن تكرارها في نسق آخر .. " . و عن الحاجة إلى مؤسسات الدولة يقول " الحاجة إلى المؤسسات لا تنبع من الصراع الداخلي، و لكن من صدمة حادة، كأن تكون أزمة عملة، أو كساد، أو تضخم هائل، أو ثورة، أو حرب . و هو يشير إلى ما جاء في كتاب تشارلز تيلي عن تكوين الدولة القومية في أوروبا، من أن التفسير الكلاسيكي لنشوء الدولة الأوربية القومية الحديثة، كان الحاجة إلى شن حرب على مستوى متزايد الاتساع، ممّا قاد إلى جني المزيد من الضرائب، و دعم القوّة الإدارية، و المركزية البيروقراطية، في دول كفرنسا و أسبانيا و السويد .
إلى أن يقول فوكوياما أن الحرب، و مقتضيات الأمن القومي، كانا بالتأكيد المصدر الدائم لبناء الدولة في التاريخ الأمريكي، فبناء الدولة المكثّف تحقّق في أعقاب الحرب الأهلية، و الحربين العالميتين، و الحرب الباردة .. و يزعم فوكوياما أن بناء الدولة جاء في ظلّ حروب في أماكن أخرى من العالم " مثل إصلاحات الميجي في اليابان، أو دخول نابليون إلى مصر الذي قاد إلى حركة إصلاح في الدولة العثمانية، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر" .
الغرض مرض ! ..

لدينا مثل يقول أن " الغرض مرض "، بمعنى أن الإنسان الذي يلحّ عليه هدف معين بشده، يقود إلى خلل مرضي في تفكيره، يبعده عن الرؤية الواضحة، و المنطق الموضوعي السليم . لهذا، أكون حريصا أشد الحرص في قراءتي لكتابات جماعة " المحافظون الجدد "، لأنّها تقوم في الأغلب لتبرير مخطط استعماري توسعي، تحض الإدارة الأمريكية على تبنّيه . و فوكوياما رغم بعض الخلافات بينه و بين من أهم أشد رجعية في تلك الجماعة، ما يزال محسوبا واحدا منها .
ما يقوله فوكوياما عن منابع مؤسسات الدولة، و عن بناء الدولة و علاقته بالحروب و الكوارث، ممّا أوردناه في بداية الحديث، يكشف عن تفكير قاصر و محدود، لا يبرره سوى الغرض، الذي يتبلور في الربط بين الحـروب التي شنتها و تشنها الولايات المتحـدة الأمريكية على شـعوب العالم، و الادعـاء باستهداف إعادة بناء دول تلك الشعوب .
من الغريب أن يتبنّى أستاذ جامعي، و مفكّر مشهور، مثل هذا التفكير الساذج، الذي يقف بمبررات قيام الدولة القومية الحديثة، عند أحداث حروب و أزمات اقتصادية، دون انتباه إلى المحرّك الأساسي الأكبر، الذي قاد إلى تلك الحروب، و قيام تلك الدولة القومية، و أحدث ثورة مجتمعية في الحياة البشرية، غيّرت نمط حياة الإنسان الشخصية و المهنية و العلمية و السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و منظومة قيمه .

ثورة المداخن ..

الغرق في التفكير النفعي، هو الذي حجب عن نظر فوكوياما، حقيقة أن الثورة الصناعية التي حدثت منذ أكثر من قرنين من الزمان، هي التي استلزمت الدولة القومية، كما أن اقتصادها القائم على الإنتاج على النطاق الواسع، و التوزيع على النطاق الواسع، و الذي قاد إلى قيام السوق بمعناها المعاصر، لجبر الصدع بين الإنتاج و الاستهلاك . و هذه السوق، القائمة على التنافس الاقتصادي المفتوح، برّرت الحروب الاستعمارية التي شنتها الدول الصناعية الكبرى، لتحسين وضعها التنافسي .
و مؤسسات الدولة التي يتكلّم عنها فوكوياما في كتابه، كان ظهورها الكبير في بدايات عصر الصناعة . عندما نشأت الحاجة إلى تغيير طبيعة الأسرة الزراعية، بما يخدم احتياجات العمل الصناعي . المهام التي كانت تقوم بها الأسرة في عصر الزراعة، تحوّلت إلى مؤسسات في عصر الصناعة، للتعليم و الخدمة الاجتماعية و الرعاية الصحية، بعد انكماش الأسرة، و تحولها إلى أسرة نووية في عصر الصناعة
قامت العديد من الدول، على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة في العالم، لكنها لم تكن تشبه في شيء نوع الدولة الذي استلزمه عصر الصناعة، و الذي نطلق عليه تعبير الدولة القومية . و لم تنشأ الدولة القومية نتيجة للرغبة في شن حرب شديدة الاتساع في أوروبا كما قال تيلي، و لكنها كانت ضمن التحوّلات الكبرى التي طرأت على الجنس البشري، عند انتقاله من الحياة الزراعية إلى الحياة الصناعية .
و غير صحيح أن بناء الدولة في أمريكا قد تحقّق في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية، فجوهر تلك الحرب كان الصراع بين الشمال الصناعي و الجنوب الزراعي، حول مستقبل الحياة الأمريكية . و كان انتصار الشمال الصناعي، إيذانا بدخول أمريكا إلى عصر الصناعة، و انصياعا لجميع التحوّلات التي يجيء بها، و من بينها الدولة القومية .

تقنين التدخّل الخارجي !

ثم نعود ثانية إلى فوكوياما في كتابه، حيث يعترف بأن " معظم الحالات الناجحة في بناء الدولة و الإصلاح المؤسسي، تحققت عندما أبدى المجتمع احتياجا محليا قويا للمؤسسات، ثم صاغها من نسيجه الخاص، أو استوردها من الخارج، أو طبّق أنماطا أجنبية على الظروف المحلية .." .
و رغم تأكيده على أن غياب الطلب الداخلي على المؤسسات أو الإصلاح المؤسسي، هو العقبة الكأداء العظمى الأكثر أهمية، بالنسبة لهدف التنمية المؤسسية في الدول الفقيرة . فهو يعود ليقول " عند غياب الطلب الداخلي القوي، يمكن أن يتولّد الطلب على المؤسسات من الخارج " . و هو يشرح هذا قائلا أن هذا يمكن أن يأتي من أحد مصدرين :
· الأول، يتركّب من الظرف المتعددة المتصلة بالتكيف المؤسسي، و البرامج المتّبعة، و مشاريع الإقراض من الوكالات الأجنبية، أو الواهبين، أو المقرضين .
· و الثاني، يتّصل بالممارسة المباشرة للنفوذ السياسي، من جانب السلطات الخارجية، التي فرضت حمايتها على الدول الفاشلة، أو المنهارة، أو المحتلة .

لماذا يفشل التدخّل الخارجي ؟

و يعترف فوكوياما قائلا " ما نعرفه عن تقنيات و إمكانات لخلق الطلب على استحداث المؤسسات من الخارج، شديد الاتساع و غير مشجّع في نفس الوقت .." . لكنه يعود فيقول معبرا عن سياسة التوسّع الأمريكية الحالية " و المصدر الخارجي الآخر لخلق الطلب على المؤسسات، هو القوّة السياسية التي تمارسها، بشكل مباشر، دولة أو تحالف دول، كسلطات احتلال، أو من خلال علاقة قوية و مباشرة مع الحكومة المحلية .. و هذا هو ما نطلق عليه ( بناء الدول ) ؟ .
و هو يشرح هذا قائلا أن سلطة الاحتلال، من الواضح أن لها تأثير أكثر مباشرة و قوّة على الحكومة المحلية، أكثر ممّا يتوفّر للمقرض الخارجي، أو وكالة المعونة التي تعمل في إطار ظروفها .." و من ناحية أخرى، معظم بنـاة الدول سرعان ما يجدوا أن قدرتهم على تشكيل المجتمعات المحلية محدودة للغاية" . و يعترف بفشل الولايات المتحدة في معظم محاولاتها لإعادة بناء الدول، عن طريق الاحتلال العسكري، و أن " المؤسسات الباقية من هذه الجهود كانت قليلة، و متباعدة .." .
لكن فوكوياما ينتبه، عندما يأتي على ذكر جهد الولايات المتحدة في بناء كلّ من ألمانيا و اليابان، فيقول " لكن كلّ من ألمانيا و اليابان كانا من الدول البيروقراطية القوية.. لقد كانت قوّة الدولتين وراء أن أصبحتا من الدول الكبرى، و تهددان النظام العالمي .. " .
و مرّة أخرى، يغيب التصوّر الأعم عن فوكوياما، و يفشل في تحديد سرّ الفشل الذي تلاقيه أمريكا في محاولاتها إدعاء بناء الدول باحتلالها ! .. الخطأ الأكبر الذي تقع فيه أمريكا، بقياداتها، و مخططيها، هو عدم الاهتمام بالرؤية الشاملة للتحولات المجتمعية، من الزراعة، إلى الصناعة، إلى المعلومات .. قبل التفكير في تطبيق نظام ما على أي دولة، بالتراضي أو القسر، عليها أن تتعرّف موقع هذه الدولة من ذلك التعاقب الحضاري، حتّى تعلم أي نوع من النظم، يتناسب مع التكنولوجيا السائدة في عمالتها .

و إلى الرسالة التالية، لنرى مآسي الصندوق و البنك الدوليين