الأحد، أكتوبر ٢١، ٢٠٠٧

أمريكا ...الشعب

وجه نظيف لأمريكا

و رغم كل ما أوردناه عن الولايات المتحدة الأمريكية، فالحقّ أنها حافلة بالعقلاء من المفكرين و الإعلاميين و الأكاديميين، الذين يقاومون ـ رغم ضعف أدواتهم ـ هذه الموجة الرجعية المخرّبة، و يسعون إلى كشفها بلا توقّف . أضف إلى ذلك، الظاهرة القوية المستجدة، و المتمثلة في الإنترنيت
لقد أظهرت قياسات الرأي الصادقة في الولايات المتحدة تنامي قـوّة تأثير ما يدور من خلال الإنترنيت . لقد أبدت قيادات التيار الأصولي في جماعة المحافظين الجدد، و الذي يسيطر على إدارة جورج دبليو بوش، قلقا شديدا من التراجع الحالي لشعبية بوش رغم كل محاولات التضليل و الكذب و التلفيق التي تمارسها وسائل إعلام النظام . و زاد قلقهم عندما أشار الخبراء إلى أن سر هذا التراجع يعود إلى تزايد نفوذ ما يتم تبادله من آراء حرّة على الإنترنيت
لقد كانت تلك القيادات تقلل دائما من احتمال وجود أثر للشباب المتمرّد دائم البحلقة في شاشات التلفزيون، لكن الخبراء اكتشفوا أن ذلك القطاع ـ بعكس جمهور إعلام فوكس و هوليوود من المنوّمين ـ يضم فئة من العارفين المثقّفين الواعين سياسيا، دائمي الكشف عن المؤامرة الكبرى التي تخطط لها قيادات إدارة بوش
كما أن الجمهور الذي يستقبل أفكارهم و آرائهم، يقتنع بها . و الأخطر من هذا، أن ذلك الجمهور يتبرّع بنقلها إلى أوسع نطاق يحتكّ به .. و هذا هو أحد أهم أسرار تراجع شعبية إدارة بوش .. لقد ظهرت قوّة إعلامية جديدة، مؤثّرة، و تستطيع أن تتمرّد على أجهزة و وسائل إعلام القوى الرجعية و جماعة المحافظين الجدد
نعود إلى ما يقوله لامارش، نائب رئيس و مدير البرامج الأمريكية لمعهد المجتمع المفتوح، من أن وسائل الإعلام هي الأرض الأكبر للمعركة، من وجهة نظر معظم التقدميين . فهم يرون أن أصوات الجناح اليميني، و التي تكون خشنة في أغلب الأحيان، تسيطر على موجات الأثير، و أعمدة الرأي في الصحف و المجلات و بعض مواقع الإنترنيت
و مع ذلك، فمن وجهة نظر اليمين، ما زالت وسائل الإعلام تعكس انحيازا ليبراليا . و نظرا لأن الحكومة تقدّم معونة مادية للإذاعات القومية، فهي تخضع دائما للمراجعة بالنسبة لنوعية برامجها، و التنوّع النسبي في هذه البرامج بين التوجهات المختلفة
و لامارش يرى أن
التدخّل الذي يتم بالنسبة لوسائل الإعلام الإلكترونية، يكشف الكثير حول نوع الدولة التي نعيش فيها، أكثر من أشياء كثيرة أهم
الحريات الأكاديمية

يحكي لامارش، أنه في أكتوبر 2004، عندما سمع القانونيون الجمهوريون في الولاية عن استضافة الجامعة في الولاية للفنان السينمائي المعروف مايكل مور ( مخرج فيلم فيهرينهايت 11\9 ) لإلقاء محاضرة داخل الجامعة، أرسلوا يسألون عما إذا كان أجـر المحاضر سيكون إنفاقا سليما من ميزانية الولاية .. فآثرت الجامعة السلامة، و ألغت المحاضرة . و يرى لامارش أن تدخّل السياسيين في الشئون الداخلية للجامعة يعتبر أمرا معيبا للغاية .. لقد أصبحت مثل هذه الممارسات أمرا مألوفا هذه الأيام
و في ولاية أوهايو، تمنع لائحة قانون الحقوق الأكاديمية أي كلّية من " طرح مسائل نقاشية في داخل قاعات التدريس، و التي لا تتصل مباشرة بموضوع دراستهم، و التي لا تخدم أية أغراض تربوية ". سيناتو أوهايو، لاري مامبار، صرّح لجريدة الولاية، مدافعا عن ذلك الإجراء بقوله أن 80% من أساتذة الولاية هم من " الديموقراطيين، والليبراليين، و الاشتراكيين .. أي أفراد يحاولون تغيير نظمنا، و فرض موضوعات علينا لا نوافق عليها .." .
و هو يضيف أن المجلس الأمريكي للأمناء و الخريجين، برئاسة لين تشيني و السيناتور جوزيف ليبرمان، يحض الأمناء في الكليات و الجامعات على يصبحوا صقـور مراقبة للمناهـج و هيئات التدريس (!) .. و أن هذا المجلس هو الذي صدر عنه تقرير يحمل عنوان ( كيف تخذل الجامعات أمريكا)، جاء فيه " أن الكليات، و هيئات التدريس في الجامعات، كانت نقطة الضعف في الاستجابة الأمريكية "، و يقول التقرير " عندما يكون مثقفو الدولة غير راغبين في الدفاع عن حضارتها، فإنهم يساعدون بذلك خصومها " . ( لاحظ أن الحضارة المشار إليها هي حضارة بوش، و عصبة المحافظين الجدد! ) . خلال تلك الحملة تركّز الهجوم على أهم جامعتين في أمريكا، جامعة كولومبيا و جامعة هارفارد، و كان الهجوم على أشدّه على قسم لغة و ثقافة الشرق الأوسط و آسيا، في جامعة كولومبيا، و ذلك في أعقاب ظهور ما يطلق عليه " مشروع داود "، الذي يطالب برصد و مراقبة المشاعر المعادية للسامية و المعادية لإسرائيل في حرم الجامعات
المشكلة التي يطرحها لامارش بعد ذلك، هي مشكلة تمسّ المجتمع العلمي، و تنصبّ على تسييس العلوم على يد صناع السياسات الفدرالية . و يقول أنها مسألة حياة أو موت، لأنّها تسعى إلى إبطاء الحملة المضادة للمواد السامة، أو لمواجهة سخونة الغلاف الجوي، أو زيادة انتشار مرض الإيدز . و هو يشير إلى أن هنري واكسمان هو أول من لاحظ ذلك التوجّه المستجد، و الذي يبرز عندما تتناقض الأهداف السياسية لإدارة بوش مع الحقائق العلمية المستقرّة، فهي تحرّف و تراقب النتائج العلمية، بالاعتماد على علماء الحكومة، أو تعبث بالبيانات الأساسية بما يجعل النتائج متفقة مع القرار السياسي
هذا بالإضافة إلى أن المرشحين لعضوية الهيئات الاستشارية العلمية، يخضعون لاختبارات سياسية، و كانت النتيجة أن تم اختيار غير الخبراء من خارج الهيئة العلمية، لعضوية الجمعيات العلمية الكبرى . و هذه السياسة كان لها أثرها على مسائل التغيرات المناخية، و الأسلحة النووية، و أبحاث الخلايا الجذعية، و التنوّع البيئي، و التعليم الجنسي، ممّا كانت له عواقبه الخطيرة على الصحة العامة، و سلامة و أمن البلاد

حتّى الهيئات الخيرية
و من بين الأهداف المستحبة الأخرى لليمين الأمريكي، مسألة الهيئات و الجمعيات الخيرية
مثل قول هيثر ماكدونالد، (معهد مانهاتن)، ضمن الهجوم على الهيئات الليبرالية : دعونا نواجه الأمر : الهيئات تسببت في ضرر ثقافي كبير على مدى العقود الأربعة الأخيرة . فالقضايا مثل التمييز العرقي، و سياسات الهوية، و الدراسات الجنسية، و الرعاية و حقوق المشردين، كلها انطلقت كالقذائف إلى وضع لا يمكن المساس به، بفضل الأسماء الخيرية الكبرى : فورد، و روكفلر، و كارنيجي
و يشير لامارش إلى واقعة محددة، لقد تعرّضت مؤسسة فورد لهجوم نتيجة لدعمها لحضور بعض الجماعات الفلسطينية في مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة العنصرية، الذي عقد في دربان بجنوب أفريقيا في 2001 . قادت الحملة مجموعة من المنظمات المحافظة اليمينية، و جاءت المساندة القوية لها من جيش أصحاب الأعمدة و الافتتاحيات في الصحف اليمينية، مثل وول ستريت جورنال و نيويورك بوست، ممّا أرغم مؤسسة فورد على التراجع عن دعمها، و أصدرت تصريحا تدين فيه الإرهاب و كل من يسعى لهدم الدول، بما يعني اسرائيل
و يواصل لامارش قائلا أن " الهجوم على سوروس و معهد المجتمع المفتوح، قد تميّز بالتعريض، و الاتهام من خلال اصطناع الارتباطات، و التساؤل حول وطنيتنا .. و هي التقنيات الماكارثية التقليدية " . ثم يورد مجموعة من الوقائع و الشواهد التي تدعم أقواله، و من بين ذلك قوله أنّه من الصعب أن يمرّ يوم دون نوع من الهجوم على سوروس، و من ذلك ادعاء بيل أورايلي، وهو من دعاة تلفزيون فوكس اليميني، " أن دافعي الضرائب يدعمون قيادة سوروس المزعومة، في الحروب الثقافية ضد الأمريكيين التقليديين "، لأن معهد المجتمع المفتوح يدير عددا من برامج المساعدة التي تمولّها الحكومة، و الوكالة الأمريكية للتنمية العالمية
و الوقائع التي يسردها لامارش، يهدف منها إلى توعية العديد من الحركات الجديدة بأهمية إقامة بنية تحتية أقوى للقوى التقدمية بالولايات المتحدة، لمواجهة و دحر، استغلال اليمين الأمريكي على مدى الثلاثين سنة الأخيرة، بشكل منظّم، لمراكز اتخاذ القرار، و القيادات، و وسائل الإعلام، إلى آخر ذلك .
و يقول لامارش " هذا واجب هام للغاية . لكنّي لست واثقا من أنه خلال الجهود المبذولة قد أعطينا الاهتمام الواجب للأفكار، و إلى ما يولّد و يمتحن و يدعم هذه الأفكار : أعني الحوار و الجدل ، ذلك لأن
التقدميين في أشد الحاجة إلى تطوير رسائلهم، و المزيد من التدريب في مجال الاتصال .. نحن نحتاج إلى المزيد من المؤسسات الأقوى إلى جانبنا.. و عند قيامنا بخلق رؤيتنا الخاصة، و تفصيلها و توضيحها، يحسن بنا أن نتذكّر أن الحوار و النقد يعتبر أمرا ضروريا لأي حركة، و خاصّة إذا كانت تقوم بشكل كبير على أساس قيم المجتمع المفتوح .
و في هذا المجال يورد بعض ما كتبه دافيد بروكس الكاتب في جريدة ( نيويورك تايمز ) في مجال حديثه عن المحافظين :
" و نتيجة لتعوّدهم الاعتقاد أنهم يعون بشدة جذورهم العقلية، و نتيجة لحديثهم الطويل عن الفلسفة العامة، يصبح من الهام معرفة أن : لا يحدث أن ينضم إنسان إلى حركة ما، نتيجة لإعجابه بخطة إصلاحها . بل ينضم الناس لاعتقادهم أن رؤى الحركة حول الطبيعة البشرية و المجتمع تكون حقيقية " . و يستشهد جارا لامارش مرّة أخرى بقول ستيفن هيوارد، أحد أهم شخصيات معهد المشروع الأمريكي، عندما تحدّث عن الرؤية و الجهود التطوّعية، فأشار إلى العلاقة بين الليبرالية و التقدّم قائلا " الليبرالية، باعتبارها أيديولوجية مبرمجة، تستمد معظم طاقتها و شرعيتها بين الجمهور، من افتراض أنها القوة الرئيسية للتقدّم البشري .." .
و يشير لامارش إلى قول بروكس أن " التقدّم " بالمعنى العملي ، يعني التوسّع المستمر ـ و غير المحدود ـ للحكومة . و هذا هو السبب في أن مجالات الحياة الاقتصادية و الاجتماعية، ينتهي أمرها أكثر فأكثر إلى أن يجري تسييسها، رغم ما نبذله من جهد جاد .. و هو أيضا السر ّفي انزلاق الليبراليين حاليا، و بشكل طبيعي، إلى إطلاق تسمية ( التقدّميين ) على أنفسهم، لتجنّب عدم الشعبية الملتصق باللافتة الليبرالية ..".
و هو يرى أن الرأي العام ما زال غير محصّن تجاه دعاوى الليبرالية و التقدم . و لعل هذا هو السر في الموقف المفهوم حاليا لحركة المحافظين، و ما ينطوي عليه من عدم حرص على مجادلة اليسار حول مصطلحات التقدّم البشري
و من ناحية أخرى، يقول المحافظون ـ في إطار عداوتهم للمنادين بالليبرالية و التقدّم ـ أن الذي حدث منذ 100 سنة، من قيام المؤسسات العقلانية بإرسـاء الليبرالية الحديثة، و إشاعة فساد الدستورية الأمريكية .. فيقول بروكس، أن الليبرالية التقدمية بدأت كحركة ثقافية، تضم الاقتصاديين، و المحامين، و العلماء السياسيين، و المؤرخين، و الصحفيين،، و السياسيين العاملين . و على مدى جيل، أعادت الحركة تشكيل فهمنا لنظامنا السياسي . و الأمر يقتضي حركة عريضة، على أسس فكرية، لعكس المسار
و يعترض لامارش على هذه الأقوال، موضّحا وجود خلافات بين التقدّميين : حول العولمة، و حول التدخّل في سياسات الدول الأخرى، و حول سياسات "الهوية "، و حول العديد من الموضوعات الاقتصادية .. وهي التي خفت صوتها خلال الجهد المشترك لمواجهة الهجمات اليمينية . و يضيف أن التحدّي يكمن في التحاور بصراحة و باحترام بين بعضنا البعض، و أن نتكاتف فيما يتصل بالموضوعات العاجلة، في هذه اللحظات الحرجة
و إلى الرسالة القادمة، لنرى ما يقال عن الظلام الذي يحيط بالعقل الأمريكي