من ألمانيا إلى أفغانستان
الدور الأمريكي العجيب في بناء الأمم
نواصل فيما يلي اســتعراضنا لكتاب البنتاجون الأمريكي، الصادر عن مؤسسة ( راند )، تحت إسم " الدور الأمريكي في بناء الدول.. من ألمانيا إلى العراق " .
يقول الكتاب أن احتلال أمريكا لألمانيا و اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، كان الخبرة الأولى لأمريكا في استخدام القوّة العسكرية، في أعقاب الصراع، لفرض تحوّل مجتمعي أساسي سريع .
و هذه أوّل مغالطة، فتعبير " تحوّل مجتمعي " ينسحب على حالة تحويل دولة من النظام الزراعي إلى النظام الصناعي مثلا، أو من الصناعي إلى المعلوماتي . و حقيقة الأمر أن ألمانيا و اليابان كانتا دولتين صناعيتين كبيرتين، قبل الحرب العالمية الثانية، و بعد التدخّل العسكري الأمريكي في نهاية الحرب العالمية الثانية . لم تكن العملية عملية تحولات مجتمعية، بل كانت تلاطم مصالح استعمارية سادت عصر الصناعة بأكمله . فالاستعمار العسكري كان جانبا من جوانب المجتمع الصناعي، و أحد ضرورات المنافسة الاقتصادية .. فقامت العديد من الحروب ـ المعلنة و الخفية ـ بين الدول الاستعمارية، و التي كانت الحرب العالمية الثانية إحداها .
ثم يقول التقرير " وبالنسبة للسنوات الأربعين التالية، كانت هناك محاولات قليلة لتقليد عمليات النجاح السابقة . و خلال الحرب الباردة، كانت سياسة الولايات المتحدة تركّز على الاحتواء و الردع و الإصلاح تجاه الأمر الواقع .. و كان استخدام القوة العسـكرية للحفاظ على الأمر الواقـع، و ليس لتغييره.. على إدارة الأزمات و ليس حلّ المشاكل التي تسببها .." .
و من الواضح أن أمريكا كانت تتخذ ذلك الموقف، توقيا للصدام مع الاتحاد السوفييتي . و من الواضح أيضا أن تلك السياسة قد تغيّرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي .
يقول التقرير " تدخلات الولايات المتحدة في أماكن مثل جمهورية الدومينيكان، و لبنان، و جرينادا، و بنما، كان بهدف الإطاحة بأنظمة غير صديقة، و إقامة أخرى صديقة، أكثر من كونه سعيا إلى إحداث تحولات مجتمعية أساسية .." . إلى أن يقول " نهاية الحرب الباردة خلقت مشاكل جديدة للولايات المتحدة، و فتحت احتمالات جديدة .. خلال الحرب الباردة، عمدت الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي، و أحيانا كلا منهما، إلى دعم عدد من الحكومات الضعيفة لأسباب جغرافية سياسية . على سبيل المثال، اعتبرت كل من يوغوسلافيا و أفغانستان قطعة هامة من الناحية الاستراتيجية الجغرافية، فوق رقعة شطرنج الحرب الباردة، و استقبلت أنظمتهما الحاكمة دعما خارجيا قويا .. و مع اختفاء الاتحاد السوفييتي، فقدت موسكو قدرتها، كما فقدت واشنطن منطقها الجغرافي السياسي لدعم مثل تلك الأنظمة .. و أصبحت واشنطن حرّة في تجاهل الاضطرابات الإقليمية، إذا كانت لا تهدد مصالح الولايات المتحدة .." .
و بكل صراحة، يقول التقرير أن الولايات المتحدة ـ منذ نهاية الحرب الباردة ـ أصبحت لديها القوة التي لا ينافسها أحد لحل المشاكل العالمية، و ليس مجرّد احتواءها .
ضمان الدعم الدولي
أصبحت الولايات المتحدة قادرة على تأمين دعم دولي لجهودها، عندما تختار الاعتماد على ذلك الدعم، هذا هو ما يقوله كتاب الدور الأمريكي في بناء الأمم من ألمانيا إلى أفغانستان . و يضيف أن المجتمع العالمي أصبح أكثر ميلا لسياسة التدخّل العسكري . و رغم البيئة الدولية متزايدة الدعم لهذا الجهد، فإن التكلفة و المخاطر المرتبطة ببناء الدول ظلّت عالية . و نتيجة لذلك فلم تقدم الولايات المتحدة على هذه العمليات بسهولة .
لقد انسحبت من الصومال عام 1993، عند أول مقاومة جادة صادفتها . و آثرت عدم المشاركة في الجهود الدولية من أجل إيقاف المذابح في رواندا عام 1994 . كما قاومت الجهود الأوربية للاشتراك في قوّة حفظ السلام بالبلقان، على مدى أربع سنوات من الحرب الأهلية الدموية . و بعد تدخلها في البوسنة، قضت ثلاث سنوات أخرى في محاولة التوصّل إلى حلول غير عسكرية للصراع العرقي في كوسوفو .
و رغم هذا التحفّظ، كان كل تدخّل بقيادة الولايات المتحدة، فيما بعد الحرب الباردة، أكبر و أوسع في نطاقه ، و أكثر طموحا في مقاصده، من الذي سبقه .
و يقول الكتاب أن الهدف الأساسي في الصومال كان إنسانيا صرفا، ثم توسّع بعد ذلك ليسـتهدف إرساء نظام ديموقراطي . و في هاييتي، كان الهدف إعادة تنصيب رئيس، و إدارة انتخابات وفقا للدستور القائم . و في البوسنة كان دولة متعددة الأعراق . في كوسوفو، كان الهدف تأسيس حكومة ديموقراطية، و اقتصاد حر، من الصفر فعلا .
في حملة الانتخابات الرئاسية عام 2000، انتقد جورج بوش إدارة كلينتون، لأجندتها المتسعة في مجال بناء الدول . و لكن كرئيس، تبنّى بوش مجموعة أكثر تواضعا من الأهداف، عندما واجه بتحديات شبيهة في أفغانستان . و الجهد الحالي لهذه الإدارة يمضي في السبيل المعاكس، نحو عمليات أكبر، أكثر طموحا تقودها الولايات المتحدة في مجال بناء الدول .
و في نهاية هذا الفصل، نجد هذا الاستخلاص " يبدو أن بناء الدول، هو المسئولية التي لا يمكن التنصّل منها، بالنسبة للقوّة العظمى الوحيدة في العالم .." .
المنصرف .. و الوارد
و كالعادة، يقوم الكتاب بمسك دفاتر عمليات التدخل العسكري للولايات المتحدة في أنحاء العالم، ليحدد العلاقة بين الإنفاق و المكسب .. فيقول " و بعد تقييم الحالات السبع التي ندرسها، أجرينا مقارنة البيانات الكمّية لعمليات بناء الدول، و التقدّم الذي تحقق في مجال الديموقراطية، و خلق اقتصاد لامع .. " .
و بعد محاولات غير مقنعة، لتثمين خطوات التدخّل، و جرد حسابات المكسب و الخسـارة، يقول الكتاب " بالرغم من أن كل حالة تكون فريدة في نوعها، فقد حاولنا أن نجد مساحات تكون المقارنات فيها مفيدة . بشكل خاصّ، حاولنا في عملية بناء الدولة أن نقدّر و نقارن مقاييس الدخل ( مثل القوات العسكرية، و الوقت المنصرم، و المساعدات الاقتصادية )، و الخرج ( الانتخابات الديموقراطية، و زيادة متوسّط نصيب الفرد من الدخل القومي) .." .
في الفصول التالية، يتناول الكتاب موضوع وحدة القيادة، في مقابل المشاركة متعددة الجنسيات . ثم يجري مقارنات بالنسبة للمدى الزمني الذي استغرقته عمليات التدخّل المختلفة . و يحدد الكتاب بعض حقائق مستفادة من مجموع تلك التجارب، ثم يحاول أن يطبّق تلك الدروس على العراق . و سنحاول أن نوجز ذلك فيما يلي من حديث .
لكن من الضروري أن نلفت النظر هنا إلى خطأ كبير يقع فيه من وضعوا ذلك الكتاب، و تقع فيه دائما الإدارة الأمريكية : و هو الحديث عن بناء الدول، وإجراء المقارنات بينها، دون الانتباه إلى الأساس المجتمعي لكل دولة من تلك الدول .. نوع العمل السائد في دولة ما، و علاقته بنوع النظم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية التي تناسبه . و قد يكون من المفيد طرح هذا بتوسّع بعد الانتهاء من استعراض الكتاب .
و قبل أن نواصل طرح فصول ذلك الكتاب، نريد أن نشير إلى ما نراه الخطأ الأساسي الذي تقع فيه أمريكا كثيرا، و بالتبعية وقع فيه هذا الكتاب .
مصالح من ؟!..
ما هو جوهر الموضوع ؟ .. الموضوع هو أن أمريكا ـ قبل 11سبتمبر و بعدها ـ تريد تأمين مصالحها في بعض أنحاء العالم، بتغيير أو تعديل النظم الحاكمة في بعض الدول، بما يضمن عدم تهديد هذه المصالح، حاليا أو في المستقبل . و الاسم الحركي المقبول عالميا، و لدى الدول المعنية، هو إعادة بناء الدول، و الهدف الفعلي تغيير النظم الحاكمة لبعض الدول، و فرض قيادات تكون مستعدة لتطبيق استراتيجية المصالح الأمريكية .
و عندما نتحدّث عن المصالح الأمريكية، أرجو ألاّ ينصرف ذهن أحد إلى أننا نتكلّم عن مصالح الشعب الأمريكي، إنّما مصالح طبقة كبار الأثرياء، في مجالات السلاح أساسا، و البترول و المقاولات أيضا . و لا بأس هنا من أن نذكّر القارئ بالتصنيف الحقيقي العلمي للنظام الحاكم في أمريكا، و الذي ينطبق عليه مصطلح ( البلوتوقراطية )، و هي بالقطع ليست ديموقراطية، و لكنها تعني حكم كبار الأثرياء .
عمليات تغيير الأنظمة الحاكمة في العالم، تضع لها أمريكا شعارات مختلفة، تناسب مقتضى الحال . فهي سيادة الحرّية مرة، و تطبيق الديموقراطية مرّة ثانية، و القضاء على أسلحة الدمار الشامل مرّة ثالثة .. ثم القضاء على الإرهاب أخيرا .
و من واقع الكتاب الذي نتحدث عنه، تخفق أمريكا على مدى عدة عقود، في جهودها الميمونة لبناء الأمم، و تحاول إرجاع ذلك الإخفاق إلى أسباب مختلفة، ليس من بينها السبب الحقيقي، و هو :
أن الاعتبار الأوّل، الذي يجب أن ندخله في حسابنا عند تصوّر النظام الأنسب لشـعب ما، هو أن نرصد نوع تكنولوجيات العمل السائدة بين أفراد ذلك الشعب، لكي نعرف أي نوع من النظم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية يناسبه .
و إلى الرسالة التالية، لنستعرض الفصول التالية من هذا الكتاب الكاشف لحقيقة أطماع أمريكا