" نهاية التاريخ "
و بداية فوكوياما
في صيف عام 1989، ظهر مقال لفوكوياما تحت عنوان " نهاية التاريـخ "، في مجلة " المصلحة القومية "، التي تهتم بأفكار المجموعة المثيرة للجدل من الأصوليين اليهود و الأصوليين المسيحيين، و التي تطلق على نفسها اسم " المحافظون الجدد " عندما ظهر ذلك المقال، كانت الاستجابة له واسعة و إيجابية، و كان مصدرها الأساسي هو مجموعة كتّاب مجلة " المصلحة القومية "، الذين هم في نفس الوقت كتيبة التنظير للمحافظين الجدد .
و سرعان ما تحوّل الشاب فوكوياما، الذي كان يعمل حينذاك نائبا لمدير هيئة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية، إلى شخصية شهيرة بازغة، و حظي بمركز مرموق في مؤسسة ( راند ) التابعة للبنتاجون، كذلك حظي بعقد لنشر كتاب يتيح له أن يتوسّع في نظريته التي حظيت بإعجاب المحافظين الجدد، و إن كان من بينهم القطب المحافظ إرفنج كريستول الذي قال " أنا لا أصدّق كلمة واحدة ممّا جاء في المقال "، لكنه استدرك قابلا الفكرة الأساسية، و عامدا إلى امتداح الكاتب لقدراته العقلية العالية .
ما هي الفكرة الأساسية في نهاية التاريخ ؟ ..
يقول فوكوياما " إن ما نشهده ليس هو مجرّد نهاية الحرب الباردة، أو انقضاء مرحلة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، و لكن نهاية التاريخ في نفس الوقت : بمعنى نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للبشر، شيوع الديموقراطية الليبرالية الغربية عالميا، باعتبارها الشكل النهائي للحكومة البشرية .." .
نتيجة للاستجابات السلبية لكتابه، سارع إلى القول بأن الفهم السطحي لافتراضاته هو الذي يقود إلى هذه الاستجابات . و أنّه عندما قال بنهاية التاريخ على أساس انتصار الديموقراطية الليبرالية، لم يكن يعني أن العالم قد تخلّص من معاناته و صراعاته السياسية و مشاكله الاجتماعية الحادة . و قال " انتصار الليبرالية تحقّق في واقع الأفكار و الوعي، و لم يكتمل بعد في واقع العالم المادي .." . و أضاف أن هذا الوضع المثالي سيحكم العالم على المدى البعيد، لكنّه أصرّ على أن الديموقراطية الليبرالية لن يظهر بعدها نظام أفضل أو أرقى لشكل الحكم (!!!) .
سذاجة فكرية
هذا هو النوع من السذاجة الفكرية، الذي رأينا نماذج له على مدى التاريخ، و قاد إلى حكومات شمولية، بل و دكتاتورية .. غير أن الغريب فعلا، هو ألاّ يدرك فوكوياما، و لا الذين تحمّسوا لهذا ( الاختراع ) الفكري في أنحاء العالم، و لا كبار المفكرين في مصر من دكاترة الفكر الاستراتيجي .. ما لم ينتبه له هؤلاء جميعا، هو العلاقة الوثيقة بين الممارسة السياسية، و بين الأسس المجتمعية التي تقوم عليها حياة الناس في مجتمع ما .. لم يفهم هؤلاء أن الممارسة السياسـية، أو المشاركة في إدارة شـئون الحياة، في المجتمع الرعوي أو القبلي، تختلف عن نظيرتها في المجتمع الزراعي، و كذلك عن نظيرتها في المجتمع الصناعي .
لم يفهم هؤلاء أن ديموقراطية التمثيل النيابي، أو الديموقراطية الليبرالية كما يحلو لفوكوياما أن يشير إليها، هي من اختراع مفكّري عصر الصناعة، لمواجهة تضخّم عملية صناعة القرار، نتيجة للمزيد من التركيب الذي أصبحت عليه حياة الأفراد في المجتمع الصناعي، بعد ظهور الإنتاج على نطاق واسع الذي أتاحته الآلة، و انفصاله عن التوزيع و التسويق على نطاق واسع، و بعد ظهور السوق ككيان مستقل بالمعنى المعاصر . و في هذا يعقد ألفن توفلر، المفكّر المستقبلي الكبير، مقارنة بين ديموقراطية التمثيل النيابي، و بين مراحل عمل الآلة في المصنع، فيقول :
" انبهر رجال الأعمال، و المثقفـون الثـوريون، انبهارا كاملا بالآلة في بـداية عصر الصناعة، فأقاموا العديد من نظم الحياة على نفس الأساس الذي تعمل وفقه الآلة . من هنا نبع تصوّر المجتمع الصناعي للعملية التعليمية، و المؤسسات السياسية التي تشترك في ملامح عديدة مع آلات مطلع عصر الصناعة .. حدث هذا في الدول الصناعية الرأسمالية و الاشتراكية في نفس الوقت .." .
هيجل و ماركس
الكاتب الأمريكي روجر كيمبول، كتب معلقا على نهاية التاريخ التي قال بها فوكوياما " فكرة نهاية التاريخ ليست جديدة بالمرّة . بشكل أو آخر، هي أحد مكونات العديد من الأساطير و الأديان، بما في ذلك المسيحية، برؤيتها عن المجيء الثاني . و كل من يعرف الفترة الفاصلة في الفكر الفلسفي الألماني، في القرن التاسع عشر، سيتذكّر أن نهاية التاريخ ظهرت بوضوح في فلسفات هيجل، و خليفته الساخط كارل ماركس " .
و يستطرد كيمبول قائلا أنه من الغريب موقف فوكوياما من نهاية التاريخ الذي يبدو متناقضا بشدّة.. " فهو من ناحية، و باعتباره المخلص لهيجل، ينظر إليه باعتباره الانتصار النهائي للحرّية . و هو يتكلّم عن دول أو أجزاء من العالم، ما زالت ( عالقة ) بالتاريخ، أو ( غائصة في وحل التاريخ ) . كما لو كان الوجود في واقع التاريخ هو أمر يجب علينا أن نتجنّبه . و من ناحية أخرى، يرى أن ( نهاية التاريخ ستكون من الأوقات شديدة الحزن )، جزئيا، لأنّه يؤمن بأن الأشياء التي أطلقنا عليها يوما ( الجرأة، و الشجاعة، و التخيّل، و المثالية، ستحل محلّها الحسابات الاقتصـادية ) ... و من ناحـية أخرى، لأنه ( في عصر ما بعد التاريخ )، لن يكون هناك فـن، و لا فلسـفة، فقط الرعاية السـرمدية لمتحـف التاريخ البشري .." .
لا بد من الاعتراف بقدرات فرانسيس فوكوياما، في مجال رشاقة التعبير، و إضفاء الصبغة العلمية على أغرب الأفكار، التي أثارت اهتمام ـ بل و تصديق ـ الآلاف من البشر، في أنحاء العالم .. لقد كنت أرى البـريق في عيون بعض كبار المفكـّرين لدينا، عندما ظهرت موجة الأفـكار التي تتبناها مجموعة المحافظين الجدد، من أمثال أفكار فوكوياما، و هنتينجتون، و تنشرها في مجلة " المصلحة القومية " .. كيف لم ينتبهوا إلى ضحالة الأفكار المطروحة، و خطأ الاستنتاجات القائمة عليها ؟ . لماذا يحدث هذا، وهم الدارسون الباحثون المتابعون ؟ .. هل هو غياب الرؤية الشاملة الواضحة ؟ .. أم هو غياب المنهج المناسب للتعامل مع الواقع المتغيّر الذي يفرضه الدخول إلى مجتمع المعلومات ؟ .
خطأ شامل، في مقدماته و تواليه
منذ البداية، و في مقاله الذي كان بمثابة إعلان وفاة التاريخ، آمن فرانسيس فوكوياما بأن الديموقراطية الليبرالية ( و نموذجها في رأيه نظام الحكم في الولايات المتحدة ) ، هي نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي الإنساني، و الشكل النهائي لحكومات البشر . و هذا خطأ شامل، في مقدماته و تواليه . فالنظام السياسي الأمريكي لا يعتبره العارفون نظاما ديموقراطيا ..
واقع الأمر يقول أن الولايات المتحدة تحكم كلّ أمورها، مجموعة من كبار الأثرياء في مجال السلاح و البترول و المقاولات، و ربما الدواء أيضا . يتحكمون في الانتخابات على مختلف مستوياتها، من الولايات و حتّى الكونجرس .. و يتحكمون في تمويل الحملات الانتخابية لرئاسة الجمهورية .. بالنسبة للجمهوريين و الديموقراطيين في نفس الوقت .. و أيضا يتحكمون في الرأي العام الأمريكي من خلال وسائل الإعلام و شركات الإنتاج الفني التي يمتلكونها .. و الهدف في نهاية الأمر، أن يضمنوا تخصيص مئات المليارات من الدولارات في ميزانية الدولة، بطريقة تجعلها تتسرّب إلى خزائنهم، بكل الوسائل الممكنة : بالأكاذيب، و التضليل، و التآمر، و الحروب المفتعلة، و افتعال أعداء يتربصون بالشعب الأمريكي المسكين، في البر و البحر و الجو، و من أقصى أبعاد الفضاء .. و هذا هو الذي دفع البعض إلى القول بأن أحداث 11 سبتمبر، تحوطها شكوك عديدة، لفرط انسجامها مع استراتيجيات هذه الطبقة الحاكمة من كبار الأثرياء . و ذلك البعض يحاول دعم شكوكه، بذكر ما ورد في تقرير رئيسي لجماعة المحافظين الجدد، التي تشكّلت في عصر ريجان ، و تدعّمت في عصر بوش، و تفرّغت لدعم كيانها الفكري في زمن حكم كلينتون، و طفت على السطح بقوّة مع بدايات حكم جورج دبليو بوش .. جاء في التقرير الذي وضع عام 2000، أي قبل 11 سبتمبر، ما يلي بالنص الحرفي :
" عملية التحوّل، حتّى لو جاءت معها بتغيرات ثورية، تنسحب في الأغلب على مدى زمني طويل .. و ما ينقصنا حدث حافز كالكارثة ..أشبه ببيرل هاربور جديدة " .
و إلى الرسالة القادمة، لنرى أن أمريكا هي التي في بداية التاريخ !