الأربعاء، أكتوبر ٣١، ٢٠٠٧

أمريكا .. الشعب



الظلام الأبدي للعقل الأمريكي

الخطر الذي يتهدد الولايات المتحدة، ليس مصدره بن لادن و الإرهاب، أو إيران، أو كوريا الشمالية .. الخطر يسرى منتشرا في صمت عبر قواعد المجتمع الأمريكي، و يمس أثمن ما في الإنسان الأمريكي : عقله ! .. و أنا هنا أترك الحديث للكاتب و الناشط الأمريكي مانويل فلنزويلاس، الناقد الاجتماعي، و المحلل في مجال الشئون الدولية .
في دراسته الطويلة التي تحمل عنوان " الظلام الأبدي للعقل الأمريكي "، يقدّم الكاتب تحليلا عميقا واعيا صادقا لواقع الشعب الأمريكي . و هو يوضّح أبعاد المؤامرة على عقل الشعب الأمريكي، التي تعتمد على وسائل الإعلام واسعة الانتشار، التي تعمل وفق خطّة عليا، ترسمها في الخفاء قوى الاحتكارات الرأسمالية التي تسيطر على مصير أمريكا .
فماذا يقول فلنزويلاس عن هذا ؟ :
" الظلمة التي أطبقت على الإمبراطورية (يقصد أمريكا)، و شعبها، قد تزايدت خلال 50 سنة الأخيرة، بفضل التطور المتواصل لشاشة التلفزيون، و الأذرع الأخطبوطية دائمة الامتداد لإعلام عالم المال و الأعمال . لقد أصبح التلفزيون الأداة الوحيدة، الأكبر، في يد وحش المؤسسـة الحاكمة، و الذي قد تحوّل ـ على مدى العقود القليلة الأخيرة ـ إلى جهاز يسـتنبط من المشاهدين نوازعهـم و يستغلّها، في مجال الاستهلاك، و المادية، و الإيمان بالخيالات، و في التلاعب العقلي، و عشق الدولار المعبود، و فيروسات الجشع، ممّا يغني و حش المؤسسة الاقتصادية بكل من الثروة، و عقل الشعب الأمريكي المحكوم، و الذي يسهل التلاعب به . ." .
و هو يستطرد قائلا أن العقل الجمعي الأمريكي تبددت قوته و قدراته، على العقود القليلة الأخيرة، و انحط متحولا إلى قطعة من الإسفنج، مستعدة لتقبّل و الإيمان بأي شيء و كل شيء، مزروع على شاشة التلفزيون، التي أصبحت تقوم الآن بوظيفة العقل .
هذا التلفزيون، الذي تحتلّ شاشته المضيئة موقعا مركزيا في بيوتنا الآن، يسرق منّا عقولنا القادرة على التفكير و التحليل، و يؤثّر في أجسادنا الصحيحة، قد أصبح السلاح الأكبر و الأوحد الذي يعتمد عليه رأسماليو المؤسسة، في السيطرة علينا، و التحكّم فينا، و برمجتنا .. هكذا يرى فلنزويلاس وضع التلفزيون في المجتمع الأمريكي المعاصر .

التعاسة .. و الإكتئاب

و عن التلفزيون الأمريكي يقول أيضا " منذ المولد، يصبح أبانا بالتبنّي، و مستشارنا الاستهلاكي، و الساحر المادي، الذي يقودنا بضوئه المنـوّم وسط ضباب السيطرة الرأسمالية الكثيف .. يدربنا من المولد كيف نصبح مستهلكين طفيليين جيدين، ممطرا عقلنا الذي لم يكتمل نموّه بالخيالات و بأساليب التلاعب النفسي، مغرقا عقولنا البكر بومضات صور سريعة متدفّقة لم يسبق أن تعرّض لها عقل بشـري في دور التكوين .. و بهذا كلّه يبدأ التلفزيون في تشـويه رؤيتنا للواقع .." .
و يرى فلنزويلاس أن عواقب التعاسة التي ترجع إلى عدم تحقّق الجمال، أو الثراء، أو السعادة، أو الكمال، الذي رسمته الشخصيات الخيالية التي عشقناها على شاشة التلفزيون، بالإضافة إلى عوامل أخرى تسود مجتمعاتنا الرأسمالية .. يقود إلى إشاعة الاكتئاب في عواطفنا و مشاعرنا حول أنفسنا، و الحياة التي نعيشها .
و هو يقول " كوكتيل مولوتوف هذا من التعاسة الرأسمالية، قاد إلى نمو هائل في طلب، بل و إدمان، العقاقير الطبية التي تقود إلى تغيير حالة العقل، كما أن عقاقير الهلوسة أصبحت واسعة الانتشار في مجتمعنا حاليا، و هذا يشكّل وسائل هروبية من الحياة غير السعيدة التي فرضت علينا .." .
عندما يكتشف الأمريكي أن الأهداف التي لوّح له بها النظام غير قابلة للتحقّق .. و عندما يقارن بين الكمال الذي تابعه على شاشة التلفزيون من الصغر و بين واقع حياته، يكتشف أن الحياة التي يعيشها مملّة و ناقصة، و ليس فيها ما يثير .
يقول " مع 11 مليون طفل يعيشون على الأدوية المضادة للاكتئاب، و مع من هم أكثر من ذلك من البالغين الذين يعتمدون على العقاقير، تثور الأسئلة حول سبب مثل هذا التحلل الكلّي، و الذي لم يمر بمثله أي مجتمع من المجتمعات .." .

الإعلانات و خفافيش التسويق

ثم ينتقل فلنزويلاس بعد ذلك إلى ما تصنعه الدعاية و الإعلان و حملات التسويق في الإنسان الأمريكي .. و عن البرامج التي تسعى إلى تحويل المواطن إلى مستهلك مطيع، يقول " ..الإعلانات و المنتجات المصممة خصيصا لهذا الهدف، يتم إطلاقها من خلال نافذة الفرص الهائلة ( يقصد التلفزيون )، لتعشي أعيننا بسيل من الصور التي تنقضّ على نفوسنا، و عواطفنا، و سلوكنا الحيواني، و شهواتنا .. " .
و يضيف، أن الهجوم يبدأ بشكل منهجي في مرحلة شبابنا، مع سعي خفافيش التسويق و مصاصي الدماء في إخضاعنا لعملية استنساخ، وفق التنوّع الواسع من منتجاتهم . و هم يعلمون أنهم إذا نجحوا في إحكام قبضتهم على الطفل الصغير، فسيكون هناك احتمالا قويا أن يتحوّل عندما يكبر إلى مستهلك مبرمج على مدى حياته .
ذلك لأنّه من السهل استغلال العقل النقي البريء للطفل، لكي يصبح ـ وئيدا و لكن أكيدا ـ العبد العقلي و الجسدي لهؤلاء الذين تملأ عمليات غسيل المخ المتواصلة التي يقومون بها موجات الأثير . ثم يقول " من بين أكثرنا براءة و نقاء، تستمتع أسماك قرش المؤسسات الاقتصادية بأعظم وجباتها .." .

الثقب الأسود .. في التعليم الأمريكي !

" من المهد إلى اللحد، يمارس التلفزيون تنشيط سحر المؤسسات، مساعدا على جعل أمريكا أكثر المجتمعات استهلاكا، و مادية، و شراهة، و تبديدا، من بين المجتمعات التي رعت على الأرض .. نحن متخمون بالطعام، و نبدد ليس مثل أحد، و نستهلك كما لو أن حياتنا تعتمد على ذلك، و نلوّث البيئة بتأثيرات مدمّرة .. و كالجراد الوبائي نلتهم الموارد الطبيعية لكوكبنا، غير آبهين لصالح المحيطات و الغابات، و 6 بلايين من البشر ـ غيرنا ـ يقاسموننا هذا الكوكب الصغير .. ". هذا هو جانب من النقد الذاتي ( الذكي )، الذي قام به الكاتب و المفكّر الأمريكي مانويل فلنزويلاس .
و هو يستطرد قائلا " عطشنا للبترول لا يمكن أن نرويه سوى بالحروب، و الخراب و الموت . و شهيتنا المفتوحة للسلع و العمالة الرخيصة تقودنا إلى استعباد بلايين البشر على اتساع العالم .. " . و هو يقول أن الأمريكيين يكونون 4% من سكان العالم، و مع ذلك يساهمون بما يصل إلى 25% من ثاني أكسيد الكربون الملوّث للغلاف الجوي .. و يضيف " نحن 290 مليون إنسان، معظمهم يؤمن أن سطح هذه الأرض بما عليها من بشر، رصدها الله ملك يمينهم، لخدمة أمريكا .. الدولة الوحيدة التي يحق لها أن تملي أوامرها على جميع الآخرين، في الوقت الذي لا توجد فيه لدى عشرات الملايين منّا، أدني فكرة، أو مجرّد خاطر، عالم من الشعوب و الدول خارج أمريكا .. " .

فشلنا في فهم لبشر

و يعترف الكاتب قائلا انّه خلال الكارثة التي خلقناها في العراق، يمكننا أن نشهد دليلا على جهلنا و نقص معارفنا .. و نتيجة لفشلنا في التعرّف على الثقافات و الأديان و العقائد و المجتمعات الغريبة علينا، و نتيجة لفشلنا في فهم البشر خارج شواطئنا، و بقائنا ناسين واقع العداوات التي خلقتها سياساتنا، و التي تجعل حياتنا أقلّ أمنا، و ليس أكثر أمنا، فارضة علينا المزيد مما هو قائم من شعور بالارتياب و انفصام الشخصية .. أخطاؤنا الهائلة في العراق و فييتنام، و مسانداتنا المتواصلة لإسرائيل و ممارساتها غير الإنسانية مع الفلسطينيين، و ابتعادنا المستمر عن المجتمع الدولي، هي كلّها شواهد على اضمحلال معرفتنا بالعالم، و جهلنا المتنامي ـ بشكل استثنائي ـ الذي لا يخدم سوى إضافة المزبد من المخاطر لحياتنا، و يبعد عنّا البلايين التي كانت تبدي إعجابها ذات يوم بالولايات المتحدة، و تقف إلى جانبها .
و يختم الكاتب اعترافاته هذه بقوله " إننا نتقوقع داخل الفقاعة التي تعزلنا عن الحقائق و الواقع الذي يؤثّر على البلايين التي تعيش على حافة الموت جوعا، تعاني من الفقر المدقع، و التهديد الدائم بالمرض و الموت .. في الوقت الذي نبتهج نحن فيه بجهلنا الخاص، و بقوتنا المتفرّدة المفروضة .." .
ثم يستطرد فلنزويلاس قائلا أن الإنسان يتوقّع من دولة واسعة الثراء، تملك موارد هائلة، و تنوّعا واسعا من البشر .. يتوقّع أن تكون قد قضت على الجـهل و الأمـية، يعم فيها الذكاء، و أن تسـود فيها المعارف العالمية و البشرية .
ثم يستدرك قائلا إن الوضع في أمريكا على النقيض من ذلك .. " فنظامنا التعليمي يعاني من ضعف الإنفاق، و عدم الكفاءة .. و هو أشبه بنوعية التعليم التي يمكن أن يتوقعها الفرد في دولة متخلّفة في أفريقيا، حيث ما يخص الفرد من ميزانية التعليم لا يتجاوز 8 دولار في السنة .. تعليمنا، عوضا عن تحرير العقول، يستعبد أطفالنا، و يبرمج صغارنا أن يبقوا دائما بين السطور، و أن يصبحوا مسلوبي الإرادة، تنسحق أفكارهم تحت وطأة المؤسسات و ما تفرضه الدولة .." .
و يضيف أن الكتب المدرسية و المناهج تزيّف التاريخ الأمريكي، و لا تنقل إلى الدارسين حقيقة ما مارسته الدولة من إرهاب، و مذابح، و إبادة عرقية، و عبودية، و حروب و جرائم ضد الإنسانية، من أجل أن تؤمّن " موطن الأحرار، و أرض الشجعان " ! . و يقول " لقد تمت عملية تبييض لجرائم الماضي، و ما اقتضاه الحصول على ثرواتنا الحالية، جرى محوه من ذاكرتنا .. و في مكان ذلك أفسح المجال لروايات خيالية و تاريخ مصنوع، يدور حول الطريقة التي أصبحت بها الولايات المتحدة الإمبراطورية الحالية .
تلاميذ .. أم روبوت ؟
يضيف فنزويلاس أن التعليم الأمريكي، كان و ما يزال، يسعى إلى خلق بشر آليين، لا يفكّرون، تدرّبوا على الانصياع لأوامر الدولة، و أعراف السلطة .. تدرّبوا على ألاّ يفكّروا في أنفسهم أبدا .. أطفال اليوم تجدهم مستعدين و مؤهلين للإجابة على الاختبارات القياسية، بينما هم يحرمون من النشاطات الفنية الليبرالية الهامة، التي يمكن أن تزرع فيهم التفكير التحليلي، و الابتكار، و الأفكار التي تحضّ على البحث و الاستقصاء .
و يضيف فنزويلاس أنّه بفضل التقليص المتواصل في ميزانية التعليم، و وجود جورج دبليو بوش في البيت الأبيض، يجري اليوم برمجة ملايين الأطفال على نمط الإنسان الآلي .. ملايين الأطفال، الذين يتفجّر معظمهم بالمواهب العظيمة، و القدرات العالية، يفقدون فرصهم الطبيعية، و يختم فنزويلاس حديثه عن التعليم الأمريكي قائلا :
" في ظل عقول لا تفكر أو تسأل، تصبح القلّة الممسكة بأعنّة مجتمعنا أكثر حرية في زرع المزيد من أدوات السيطرة و التحكّم، على حساب تدهور و هبوط الجماهير .. عندما يجهل الشعب ما يدبّر له، يتحقق النجاح للقوى الحاكمة، في إشاعة الظلمة المطبقة في العقل الأمريكي ..و هذه هي حقيقتنا اليوم .. " .

حرفة صناعة الأعداء

" الافتراضات الساذجة، و العقائد المشوّهة، فيما يتّصل بعظمتنا و تفرّدنا، تحققت ببساطة لأن الدولة أرادتها كذلك، حارمة إيانا من فهم السبب في أن العالم يكره أمريكا .. لأنه جرى تدريبنا على تصديق طهارة الدولة، و طيبتها المحسوسة، و أنها لا تكذب أبدا، و لا تطيق ارتكاب فظائع الشر البشري، أصبحنا غير قادرين على الوصول إلى مجموعة الشرور التي ترتبط بالقوة الصانعة لقدرنا المشترك .." .
هذا هو ما يقوله فنزويلاس في تلخيص ما سبق .. ثم هو ينتقل بعد ذلك من العام إلى الخاص المحسوس، فبتكلّم عن المذبحة الاقتصادية التي حملت لافتة (العقوبات) التي فرضت على العراق في تسعينيات القرن الماضي، التي قضت على حياة ما يقرب من مليون و نصف من البشر، ثلثين منهم من أطفال .. و هو يرى أن هذا الذي أصرّت عليه أمريكا يعتبر " نموذجا للشر الذي تكون حكومتنا قادرة على ارتكابه، بفضل سلبيتنا الصامتة .." .
ثم هو يعدد بعد ذلك الجرائم الأمريكية الكبرى التي شهدها العصر الحديث، و من بينها قتل ثلاثة ملايين فييتنامي، بالقنابل، و السموم الكيماوية، و الأمراض الوبائية، و الفقر و العوز الناتج عن التدمير الشامل الأمريكي . و يعقّب " ما نسميه ( الحرب على الإرهاب )، و اقتناعنا الذي ليس له ما يبرره من حجج حكومتنا التي تحوّلت إلى أداة في يد الوحش الرأسمالي، و تحالف السلاح مع الصناعة .." .
و هو يتساءل : لماذا لا نتشكّك أو نبحث مصداقية ما هو على الأرجح ضرب من الخيال، الذي لا يخدم سوى إضافة المزيد من ثراء الرأسماليين الشرهين، عن طريق زرع الخوف في نفوس المواطنين، و التحكّم فيهم، و توريطهم في حروب دائمة، تستهدف أرباحا دائمة ؟ .. إن الحرب الوهمية على الإرهاب قد جرى تصميمها بحيث تفرخ إحساسا بالخوف و افتقاد الأمان، حتّى تستطيع خطوط التجميع في الدفع بالمزيد من الأرباح، و المزيد من القوّة و القدرة على السيطرة و التحكّم في أيدى أصحاب المؤسسات الرأسمالية .
و إلى الرسالة القادمة .. لنعرف لماذا تجمع شعوب العالم على كراهية أمريكا ؟