الأربعاء، يوليو ٠٩، ٢٠٠٨

أمريكا .. المؤامرة

أمريكا.. ماذاتفعل بها

الرغبة القاتلة في التفرّد ؟

لا أدري كيف لم ينتبه كتاب الدور الأمريكي في بناء الدول.. من ألمانيا إلى العراق ، و هو يتساءل عن سر النجاح الذي تحقق في ألمانيا و اليابان، ثم الفشل في محاولات الصومال و هاييتي و أفغانستان . إلى اختلاف البنية المجتمعية في ألمانيا و اليابان، عنها في الدول الأخرى ..
قبل أن نفكّر في إعادة البناء، أو في فرض نظم على مجتمع ما، لا بد أن نعرف بشكل علمي طبيعة الأسس المجتمعية السائدة فيه، و النابعة من طبيعة التكنولوجيا السائدة، التي يقوم عليها عمل معظم أفراد ذاك المجتمع .
مشكلة أمريكا الكبرى، في الداخل و الخارج، أنها لا تنتبه ـ وسط دوامـة الأطماع و شعور التفرّد بالقوّة ـ إلى العلاقة بين التكنولوجيا الابتكارية الأساسية السائدة، و التي تقوم عليها عمالة المجتمع، و بين نوع الأنظمة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية المطلوبة .
عصر الزراعة، قام لعشرة آلاف سنة على تكنولوجيات محدودة، لا يحتاج إلى أكثر منها . و لذلك، مع كل الاختلافات العرقية و العقائدية و الجغرافية بين الدول الزراعية في قارات العالم، كانت الحياة تسير وفق نظم سياسية و اقتصادية و اجتماعية واحدة، في معظم الأحيان .
و بعد ذلك، كلّما تحول شعب إلى الصناعة، في أي قارة من القارات، سارت حياته وفق النظم الخاصة بالمجتمع الصناعي، في مجال السياسة و طرق الحكم و اتخاذ القرار. و في مجال الاقتصاد من حيث انفصال الإنتاج على نطاق واسع، و التوزيع على نطاق واسع، و قيام السوق بمعناها الصناعي . و اعتمد ذلك الشعب مفهوما اجتماعيا ينسب إلى عصر الصناعة، من حيث الأسرة و التعليم و الرعاية الصحية و الاجتماعية . كما أصبح يسير وفق القيم و المبادئ و العقائد النابعة من احتياج الصناعة .
و نفس الشيء يحدث اليوم، في انتقالنا من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات .
أزمة أمريكا الداخلية في جوهرها : اقتحام عصر المعلومات بعلوم و معارف و تكنولوجيات معلوماتية متقدّمة، و جمود عند خليط من قيم مجتمع الصناعة في حياتها السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، نتيجة لسيطرة القلة من كبار الأثرياء . كما أن أزمة أمريكا، في تعاملها مع الخارج، التي يكشف عنها هذا الكتاب، هي نفس الأزمة، في تصوّر إمكان إعادة بناء الصومال مثلا بتكويناته المجتمعية الحالية، بنفس منطق إعادة بناء ألمانيا و اليابان، و هما الدولتان الصناعيتان اللتان كانتا تصنّفان على نفس المستوى الصناعي لأمريكا، قبل الحرب العالمية الثانية
الذي يجب أن تفهمه أمريكا جيدا، أنه من الخطأ تصوّر إمكان فرض نظم المجتمع الصناعي على مجتمع زراعي، لم يتحوّل معظم أهله إلى العمل الصناعي .. ديموقراطية التمثيل النيابي، بكل ما يتّصل بها من أحزاب و صناديق انتخاب و معارك انتخابية، هي من اختراع عصر الصناعة، و قامت تلبية لاحتياجات الحياة الصناعية، و مصالح الاقتصاد الصناعي .
و هذا الخلط يجعلني مفضلا تجاوز الفصل الخاص بمقارنة حالات التدخّل الأمريكي في الكتاب .

الرغبة القاتلة في التفرّد

في فصل بعنوان " التفرّد بالقيادة، في مقابل المشاركة متعددة الجنسيات "، نكتشف مدى الرغبة الأمريكية القاتلة في التفرّد بالعمل، و في فرض إرادتها على العالم . و الكتاب يعترف أنّه لولا ضيق ذات اليد (!)، لانفردت أمريكا بالعمل جميعه !! . يقول الكتاب أن أمريكا تحمّلت معظم العبء في تحويل اليابان، و جانبا كبيرا من العبء الألماني، عندما كانت تحقق 50% من إجمالي الإنتاج المحلي في العالم . و في التسعينيات، و عندما هبطت النسبة إلى 22%، أصبح التعاون العالمي في عبء العمليات حتميا . و كانت مشكلة أمريكا بعد ذلك أن تساهم بما هو متاح في الجهد العالمي، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من التفرّد بالقرار .
و يتكلّم الكتاب عن أسباب فشل العمليات في الصومال و هاييتي . و كيف نجحت الأمم المتحدة في إقامة قيادة مشتركة بالنسبة لعمليات البوسنة، و مساهمة عسكرية واسعة من خلال "الناتو" . و يقول الكتاب " يبدو أن الترتيبات التي تمت في كوسوفو توفّر الصورة الأمثل للجهود المندمجة، بين قيادة الولايات المتحدة، و المساهمة الأوربية، و المشاركة الواسعة في الأعباء المالية، و الوحدة القوية في القيادة .. " . و يبدي الكتاب اعتزازا بالنسبة للعمليات الخاصة بكوسوفو، باعتبار أن " الولايات المتحدة قد نجحت في أن تقوم بدور قيادي يحوز الرضا، رغم أنها دفعت 16% فقط من تكاليف إعادة البنـاء، و قدمت 16% فقط من قوات حفظ السلام ..".
و يخرج الكتاب باستخلاص من تجربتي كوسوفو و البوسنة، مفاده أن " نجاح هذين النموذجين في إدارة عملية إعادة بناء على نطاق واسع، اعتمد بشدة على قابلية الولايات المتحدة، و حلفائها الرئيسيين، للتوصّل إلى رؤية مشتركة لأهداف المشروع، ثم لتشكيل استجابات المؤسسات المعنية ـ و هي أساسا حلف شمال الأطلنطي، و الاتحاد الأوروبي، و الأمم المتحدة ـ وفقا للأهداف المتفق عليها .." .
و عندما ينتقل الكتاب إلى التدخلات الأخيرة، يقول في مقارنات غير مفهومة " المحصلة النهائية التي توصلنا إليها حاليا في أفغانستان، تجيء أفضل من نظيرتها في الصومال، و أيضا أفضل مما توصلنا إليه في هاييتي، و لكن ليس بنفس جودة البوسنة و كوسوفو . على أي حال، عملية أفغانستان أقل تكلفة مالية بكثير .." .

تغيير النظم، و ليس إحياء الاقتصاد

تحت عنوان " اشتراطات النجاح " يقول الكتاب " بناء الدول، كما عرّفناه، و الأكثر أهمية، كما عرّف المسئولون عن العمليات أهدافهم في وقت تدخلهم، لم يكن هدفه الأساسي إعادة بناء اقتصاد دولة ما، و لكن إحداث تحوّل في مؤسساتها السياسية .." . لاحظ هنا، أنهم لا يقرون بعلاقة وثيقة بين طبيعة البنية الاقتصادية، و البنية السياسية المناسبة لها .
و يستطرد الكتاب قائلا " إن نشر الديموقراطية في أمريكا اللاتينية، و آسيا، و أجزاء من أفريقيا، يوحي بأن هذا الشكل من الحكومات ليس قاصرا على الحضارة الغربية، أو على الاقتصاديات الصناعية المتقدمة .. لكن فشل التدخل الذي يتم بقيادة الولايات المتحدة في تشجيع التحوّل إلى الديموقراطية في هذه الدول، له تفسيرات أخرى غير التفسيرات الاقتصادية الخالصة .. و وحدة الأعراق الجنسية، هو متغيّر آخر ممكن الأخذ به عند تفسير الفروق في نتائج عمليات إعادة بناء الدول المختلفة . فالصومال و هاييتي و أفغانستان، كانت منقسمة على نفسها عرقيا و قبليا، بأشكال لم تكن متحققة في ألمانيا أو اليابان ." .
و مرة أخرى، يخرج الكتاب باستخلاص قاصر عندما يقول " ما يميّز ألمانيا و اليابان و البوسنة و كوسوفو من ناحية، عن الصومال و هاييتي و أفغانستان من الناحية الأخرى، ليست هي مستويات التطور الاقتصادي، أو التأثر بالثقافة الغربية، أو التجانس العرقي . الذي يميز بين هاتين المجموعتين من الدول، هو مستوى الجهد الذي بذله المجتمع الدولي من تحوّلها إلى الديموقراطية .." .
و نعود لنقول أن التفكير في التحوّل الديموقراطي تحتاج إلى أمرين، تحديد نوع الممارسة الديموقراطية التي نتكلّم عنها : ديموقراطية الشورى التي نبعت من احتياجات المجتمع الزراعي، أم ديموقراطية التمثيل النيابي التي اخترعها المجتمع الصناعي لتلبية احتياجات صناعة القرار فيه، أم ديموقراطية المشاركة التي لا ينيب فيها الفرد من يتخذ عنه قراراته المصيرية، و يتولاّها بنفسه .. و الأمر الثاني، فهم طبيعة التكوين المجتمعي الذي نتصدّى لتحويله ديموقراطيا، و أن نحدد طبيعة التكنولوجيا التي تعتمد عليها الأغلبية السائدة من العمالة فيه، لكي نختار له نوع الممارسة الديموقراطية التي تتناسب مع هذا التشكيل المجتمعي .

الاستخلاصات العامة

فصل الاستخلاصات يعتبر من الفصول الهامة، لأنّه يحدد لنا الاستراتيجيات التي يمكن أن تتبعها أمريكا في عمليات التدخّل العسكري القادمة ! . يقول الكتاب " لقد استنبطنا عددا من الاستخلاصات العامة، بالإضافة إلى العديد من الدروس المستمدّة من الحالات التي ناقشناها " . فماذا تتضمّن هذه الاستخلاصات :
أوّلا – الوقت وتعداد القوّات و المال : يصر واضعو الكتاب على أن العوامل المؤثرة في مدى صعوبة أو سهولة في عملية إعادة البناء، الخبرة الديموقراطية السابقة للشعب، و مستوى التطوّر الاقتصادي، و مدى التجانس القومي . لكن أهم العوامل و الذي يكون مؤثّرا في النتائج الإيجابية المتحققة، يبدو أنه يكون مستوى الجهد المبذول .. مقاسا بالوقت الذي تستغرقه العملية، و تعداد الجند و العاملين من قوى التدخّل، و النقود .
ثانياـ العمل الجماعي يكون أكثر تعقيدا، و أقل تكلفة : عمليات إعادة البناء التي تقوم بها جهات متعددة تكون أكثر تعقيدا و تبديدا للوقت، قياسا على انفراد أمريكا بالعمل . لكن الجهد الجماعي يكون أقل تكلفة .
ثالثا ـ العمل الجماعي أكثر نجاحا و تأثيرا : اشتراك عدة دول في عملية إعادة البناء، يمكن أن ينتج تحوّلات باقية الأثر، و قبولا إقليميا أكبر، قياسا على الجهد الفردي لأمريكا .
رابعا ـ وحدة قيادة لقوات متعددة الجنسيات : يمكن أن يتحقّق النجاح لقيادة موحّدة، تضم مجموعة من القوات متعددة الجنسيات، إذا ما كان المشاركون الرئيسيين يمضون وفق رؤية مشتركة، و من الممكن أن يشكّلوا تبعا لذلك مؤسسات دولية .
خامسا ـ العلاقة بين حجم قوات استقرار الأوضاع، و قدر المخاطر : يبدو أن هناك علاقة عكسية بين حجم القوات المستخدمة في استقرار الأوضاع الجديدة، و مقدار المخاطر التي تتعرّض لها هذه القوات . كلما كان تعداد قوات حفظ الأوضاع أكبر، قل عدد إصابات و معاناة الجنود . الثابت، أن معظم العمليات العسكرية التي تضمنّت قوات حفظ أوضاع مناسبة، بعد انتهاء العملية العسكرية، لم تحدث فيها معاناة من الإصابات .
سادسا ـ الدول المجاورة تأثيرها كبير : يمكن أن يكون للدول التي تجاور الدولة التي خضعت للتدخّل العسكري أثرا كبيرا و ملموسا . يكاد أن يكون من المستحيل تقريبا، لجمع أطراف دولة متفرّقة متجزّئة، عندما تعمل الدول المجاورة إلى تمزيقها . يجب بذل كل جهد ممكن لضمان مساندة الدول المجاورة .
سابعا ـ المظالم السابقة، قد تسهّل التطبيق الديموقراطي : الاعتماد على المظالم السابقة في الدولة المعنية، و على إحساس الشعب بها، يمكن أن يكون عنصر هام في عملية التطبيق الديموقراطي . و لكن يمكن أيضا أن يصبح ذلك من أكثر الجوانب نقاشية في الاندفاع إلى أي عملية إعادة بناء دولة ما .. و من ثم يجب ألا نحاول ذلك إلا إذا توفّر التزام عميق و طويل المدى، للعملية بأكملها .
ثامنا ـ عدم وجود طريق مختصر : لا يوجد طريق مختصر و سريع لعملية بناء دولة . و يبدو أن الحد الأدنى المطلوب لفرض تحوّل جاد و مستمر نحو الديموقراطية، هو خمس سنوات .

و إلى الرسالة التالية، لنرى سياسة إدارة بوش كسلسلة أكاذيب .. و خسائر