الجمعة، فبراير ٢٢، ٢٠٠٨

أمريكا .. الأمل

منتدى مستقبل أمريكا

القوّة الخطأ

من العنف و الثروة..إلى المعرفة

لقد شرحت أكثر من مرّة طبيعة التغيير الذي تحدثه التكنولوجيات الابتكارية الكبرى، كالآلة البخارية، و التكنولوجيا الكهروميكانيكية في عصر الصناعة، و الكمبيوتر و أقمار الاتصال و المستحدثات الرقمية في عصر المعلومات . و بينت كيف تقود التكنولوجيا السائدة إلى نظم حياة جديدة، تختلف ـ بل تتناقض ـ مع النظم النابعة من التكنولوجيات السابقة .
خير مثال لتوضيح ذلك، التعرّف على طبيعة القوة السائدة التي يعتمد عليها المجتمع .
الولايات المتحدة تعرّضت لنكوص شديد في هذا المجال نتيجة لإلحاح مصالح كبار تجّار السلاح . و لكي نفهم تطور وسائل القوّة مع تطور المجتمع البشري، يمكن أن نستفيد من الطرح المبدع الذي قام به الكاتب المستقبلي الأمريكي ألفن توفلر، في كتابه " تحوّل القوّة "
قرن الغزال و الصاروخ

يقول توفلر أن القوّة، أيا كانت طبيعتها، تكون متباينة في قدرها.. إلى أن يقول " في ظلّ الصراعات القاسية التي لن تلبث أن تجتاح مؤسساتنا و مدارسنا و مستشفياتنا، و مشروعاتنا الاقتصادية، و اتحاداتنا التجارية، و حكوماتنا .. في ظل هذه الصراعات لن يصل إلى أهدافه الاستراتيجية إلاّ أولئك الذين يدركون نوعية القوّة السائدة في المجتمع الذي يعيشون فيه .." .
و لا ينكر أحد أن العنف سواء جاء من خنجر قرن غزال، أو صاروخ نووي، يمكن أن يحقّق نتائج هائلة واضحة الأثر . إلاّ أن العنف ـ كنوع من أنواع القوّة ـ يتّصف بنقيصة أساسية، حتّى في الأحوال التي ينجح فيها في تحقيق أهدافه . و السرّ هو أنه يولّد مقـاومة، تجعل ضحاياه يتربصون أول فرصة للأخذ بثأرهم . و من أكبر عناصر الضعف في العنف كمصدر للقوّة، عدم مرونته، إذ أنه يستخدم للعقاب فقط . لهذا، يعتبر نوعية متدنية من أشكال و أنواع القوّة .
و من ناحية أخرى، تعتبر الثروة كمصدر للقوّة، أداة أفضل إلى حدّ بعيد . فأنت بالمال الذي تملكه تستطيع أن تعاقب و تثيب و تكافئ أيضا . لذا، فالثروة أكثر مرونة، و إن كانت قوّة من نوعية متوسّطة
قوّة المعرفة

أمّا أعلى نوعيات القوّة، فهي التي تستمد من تطبيق المعرفة . فالنوعية العالية من القوّة، ليست هي تلك التي تقف أمام إرادة الآخرين، لكنها التي تجعل الآخرين يفعلون ما تريده أنت، حتّى إذا كانوا يميلون إلى تصرّف آخر .
و يمكن وصف القوّة بأنّها عالية، إذا كانت أكثر كفاءة، أي إذا كانت تستخدم أقل موارد و مصادر قوّة في تحقيق الهدف . و المعرفة كقوّة، يمكن أن تستخدم بكفاءة ـ في أغلب الأحيان ـ لتجعل الطرف الآخر يميل إلى سبيلك الذي اخترته للحركة .
و من بين مصادر التحكّم الاجتماعي الثلاثة، تعتبر المعرفة أكثرها خصوبة و تنوّعا، فهي تستخدم في العقاب و المكافأة و الإلحاح و الإقناع .. و أيضا في التحويل و التبديل . بإمكان قوّة المعرفة أن تحوّل الأعداء إلى أصدقاء . و باستخدام المعارف السليمة و المناسبة يمكن للإنسان أن يواجه المواقف السيّئة، متجنّبا تبديد قوى العنف و الثروة . هذا بالإضافة إلى أننا ـ باستخدام قوّة المعرفة ـ يمكن أن نضاعف قوتي العنف و الثروة .
المعنى الأوسع للمعرفة عند ألفن توفلر يتضمّن المعلومة المصنّفة، و البيانات، و الصور، و الرؤى، بالإضافة إلى المواقف و القيم،و غير ذلك من النتاج الرمزي للمجتمع، سواء كانت (صادقة)، أم (تقريبية)، أم حتّى (كاذبة) . ذلك لأن هذا كلّه يجري استخدامه و الاستفادة منه على أيدي الباحثين عن القوّة، كما كان الشأن دائما . و هو يدخل أيضا في اصطلاح " المعرفة "، وسائل الاتصال التي تشكّل بدورها الرسائل التي تشيع في وسائل الإعلام .
و المعرفة، بالإضافة إلى مرونتها الكبيرة، لها من الخصائص الأخرى ما يجعلها مختلفة بشكل جذري عن غيرها من مصادر القوّة، في عصر المعلومات . فقوّة القسر و الإرغام و العنف، و قوّة المال و الثروة، تتسم جميعا بأنّها محدودة .. فهناك حدّ لمدى العنف الذي يمكن استخدامه، قبل أن نحطّم ما نسعى إلى اقتناصه أو الدفاع عنه ( أنظر ما فعلته إدارة بوش في العراق ! ) . و يصدق الشيء نفسه على الثروة، فالمال لا يمكن أن يشتري كلّ شيء، و عند حدّ معيّن تفرغ حتّى أكثر الجيوب انتفاخا بالنقود( انظر الميزانية الأمريكية بعد عدة سنوات من حكم بوش الابن ) .
و الحال على عكس ذلك مع المعرفة، فسيظل دائما بالإمكان أن نسعى لتوليد المزيد منها

الحلف الشيطاني

ما تفعله الولايات المتحدة حاليا، هو استخدام القوّة الخطأ، في الزمن الخطأ . و تعود هذه النكسة الحضارية إلى الحلف الشيطاني المنعقد بين رؤوس الأموال الكبرى في السلاح و البترول و المقاولات، و أيضا الدواء، و بين مجموعة اليهود و أتباع المسيحية الصهيونية الذين يطلقون على أنفسهم اسم المحافظين الجدد . كانت بذرة ذلك الحلف القاتل في عصر ريجان، و كان ميلاده الواقعي في عصر بوش الأب، الذي قال للصحفيين و هو يتأهّب لحرب الخليج " لقد انتهينا من ترتيب البيت الأمريكي داخليا، و سنبدأ في ترتيب العالم ! .." . ثم كانت الخطيئة الكبرى لذلك الحلف في عصر جورج دبليو بوش، الذي أسلم نفسه لعملية غسيل المخ الكبرى، التي بدأت به هو شخصيا .
لقد غرقت الإدارة الأمريكية في ذلك المخطط الجهنمي، الذي وقف ضدّه معظم قادة الدول، و جميع شعوب العالم، و العناصر الواعية في الشعب الأمريكي .. و الأهم من ذلك كلّه، هو وقوف واحد من قيادات ذلك الحلف في وجه ما يجري، و إدانته لحرب العراق، و عدم موافقته على ولاية ثانية لبوش .. و كان ذلك هو فرانسيس فوكوياما، من أهم القيادات الفكرية للمحافظين الجدد، و صاحب الكتاب الشهير " نهاية التاريخ "، بمناسبة سقوط الاتحاد السوفييتي، و بداية ما يطلق عليه أحادية القطب .
لقد أفاق فوكوياما من حلم الانفراد بالقوّة، فرفض أكاذيب الإدارة الأمريكية حول واقع عملية غزو العراق، و في المعركة الكلامية الدائرة بينه و بين أكثر جماعة المحافظين الجدد رجعية، تشارلز كراوتهامر، يقول " .. ربما كنت أغفر الكثير لو أن أحدا من هؤلاء الذين كانوا أشد المدافعين عن الحرب، قد أظهر أي نوع من إعادة النظر، و التأمل فيما حدث .. أو أبدوا معرفة بوجود إشكالية فيما أوصوا به . كراوتهامر لم يفعـل هذا، و لا فعله الرئيس بوش .. و أرى في هذا خللا كبيرا ..المحافظون الجدد يقفون اليوم أمام احتمالين : إمّا أن يتكيفوا مع الحقائق المتغيرة على أرض الواقع، أو يواصلوا الوقوف إلى جانب مجموعة المبادئ الجامدة التي يؤمنون بها .. و اختيارهم سيحدد هل ستموت حركتهم أم تواصل البقاء ..".

و في الرسالة التالية نتكلّم عن الخطأ الثالث ..

الطاقة الخطأ