الجمعة، مايو ٠٢، ٢٠٠٨

أمريكا .. إلى أين ؟ !

المفكّـرون العرب ..

و الوقوع في غـرام المصطلحات
من "العولمة" إلى "نهاية التاريخ"

منذ أكثر من ربع قرن، عندما بدأت تعريف القارئ العربي بمجتمع المعلومات، و ما يجب علينا أن نفعله لكي نسهّل لحاقنا بركب التطور الذي يمر به المجتمع البشري .. منذ ذلك التاريخ، تحدثت عن عنصر هام من عناصر عصر المعلومات، هو خروج الإنسان من نطاق الواقع المحلّي أو الإقليمي أو القومي إلى الواقع العالمي (Globalizm ) . كنت أترجم المصطلح إلى العالمية ( بمعنى الانتماء إلى العالم )، بينما ترجمه آخرون إلى الكوكبية ( بمعنى الانتماء إلى كوكب الأرض ) .. إلى أن ظهر اصطلاح " العولمة "، الذي قاومته لبعض الوقت ( ربّما لخلاعته ! )، ثم رضخت لإجماع الآخرين ..
عندما استقرّ اصطلاح " العولمة "، كانت كتائب المفكرين في معقل الرأسمالية الأمريكية الحاكمة، و التي تنتمي إلى جماعة " المحافظون الجدد "، قد طرحت تفسيرا انتهازيا للعولمة، يقوم أساسا على دعم مصالح كبار الأثرياء في الولايات المتحدة و العالم، من خلال الاتفاقيات المضللة، ذات الظاهر البريء
و قد وقع معظم المفكرين العرب في غرام المصطلح، مصطلح " العولمة " .. يختالون باستخدامه دون انتباه لعملية التزوير الفكري التي يتضمنها تفسيره الرأسمالي ..
ثم انهالت المصطلحات، فظهر " نهاية التاريخ " لفرانسيس فوكوياما ، و " صراع الحضارات " لصمويل هنتينجتون .. و تبارى كتابنا و مفكرونا في ترديد المصطلحان، على سبيل التأنّق الفكري، دون الانتباه إلى الأجهزة و الجهات التي احتضنت و شجّعت أمثال هذين الكاتبين على طرح و إشاعة المنطق الذي يهيئ الرأي العام الأمريكي و العالمي، لتقبّل الإجراءات العسكرية الأمريكية، التي تتم لحساب كبار الأثرياء الذين يحكمون أمريكا، و التي تستهدف تنشيط تجارة السلاح، و احتكار منابع البترول، و إقامة القواعد العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء العالم .. بحيث تحقق الولايات المتحدة أحلامها المعلنة حول " الإمبراطورية الأمريكية "، القادرة على فرض سيطرتها على الأصدقاء قبل الأعداء ..
و قد خصصت كتابا، يتعقب أحد خيوط هذه المؤامرة، من خلال كتابات فرانسيس فوكوياما .. منذ " نهاية التاريخ "، و حتّى كتابه " أمريكا في مفترق الطرق "، مرورا بكتابه " بناء الدول " .. أحاول فيه أن أكشف المغالطات التي لم ينتبه إليها معظم الذين فرحوا بترديد المصطلحات و العناوين ..

شرخ في جبهة الرجعيين الجدد !

قبل أن يتسلّم بوش ولايته الثانية، دارت معركة مجالها أقطاب التنظيم الرجعي، الذي يطلق أصحابه على أنفسهم اسم " المحافظون الجدد "، و الذي يتحكّم في عقل و أفكار و مشاعر جورج دبليو بوش .. و هكذا بدأ بوش ولايته الثانية بداية غير متفائلة .
في موقع ( الديموقراطية الصريحة ) بالإنترنيت، استعرض داني بوستيل الصراع المحتدم بين قطبين كبيرين من أقطاب المحافظين الجدد، هما فرانسيس فوكوياما، صاحب كتاب "نهاية التاريخ" المثير للجدل، و تشارلز كراوتهامر أكبر المتحمسين لغزو العراق، و هو الذي أطلق على نهاية الحرب الباردة تعبير " تفوّق القطب الواحد"، الذي تحوّل عام 2002 إلى " عصر القطب الواحد " .
يقول بوستيل أن تعبير "المحافظون الجدد" قد سلّطت عليه الأضواء في السنوات الأخيرة، أكثر بكثير ممّا حظي به طوال 30 سنة من تاريخه . و قد تضاعف نفوذ هذه المجموعة أو الاتجاه أو الحركة، بعد أحداث 11 سبتمبر، و كانت حرب العراق هي التتويج الفعلي لجهودها .
لقد واجهت هذه المجموعة، التي تستولي حاليا على الرئيس الأمريكي، و يحتلّ أفرادها المراكز الرئيسية في الإدارة الأمريكية .. واجهت انتقادات مريرة من كافة عناصر الطيف السياسي في الولايات المتحدة، و خاصة من أصحاب الفكر اليساري الأمريكي . و رغم تجاهل المحافظون الجدد لأنواع النقد التي توجّه إليهم، فإن الهجوم الوحشي عليهم جاء أخيرا من اليمين ! .
و لعل أحدث هجوم على حرب العراق، و على مهندسيها من المحافظين الجدد، قد أصاب أهدافه بقوّة غير مسبوقة . ذلك لأن النقد الذي قام به فرانسيس فوكوياما نظر إليه على اعتباره مسألة داخلية.. و ليس فقط لأن فوكوياما يعتبر من أشهر منظري المحافظين الجدد، و لكن لأن مناقشته لمسائل جوهرية بالنسبة لحرب العراق ظهرت في عقر دار المحافظين الجدد، على شكل 12 صفحة في مناقشة المسألة العراقية، ظهرت في صيف 2004، منشـورة في الجريدة المعبّرة عن فكر المحافظين الجدد ( ذا ناشيونال انتريست ) .
لقد كان مقال فوكوياما عبارة عن هجوم عنيف على واحد من أكبر قيادات المحافظين الجدد، هو تشارلز كراوتهامر، " الذي أصبح تفكيره الاستراتيجي شعارا لمعسكر المحافظين الجدد ، و الذي كانت فكرة الغزو العراقي في بؤرته . كان كراوتهامر أحد أكثر المنادين بفكرة الحرب حماسا .
في فبراير 2004، ألقى كراوتهامر خطابا في تجمّع المحافظين الجدد بمعهد " المشروع الأمريكي " بواشنطن، قدّم من خلاله دفاعا قويا عن حرب العراق من خلال مضمونه الخاص بأحادية القطب، أو ما يطلق عليه حاليا تعبير " الواقعية الديموقراطية" ! .
كان فوكوياما من بين حضور ذلك الخطاب .. و لم يعجبه ما سمع !..
بعد ذلك، كتب فوكوياما في جريدة المحافظين الجدد يقول أن خطاب كراوتهامر مقطوع الصلة بالواقع "..عند قراءة كراوتهامر، يسود الفرد انطباع أن حرب العراق ـ التي تعتبر تطبيقا حرفيا لأحادية القطب الأمريكية ـ كانت نجاحا غير مسبوق، ثبت من خلاله صحّة كلّ الافتراضات و التوقّعات التي قامت عليها الحرب .. و لن تجد في طرح كراوتهامر أي إشارة ـ و لو عابرة ـ عن الحقائق الجديدة التي كشفت عنها الأيام، خلال الاحتلال .." .
و يواصل فوكوياما مناقشته لمنطق كراوتهامر فيقول إنه " غير واقعي بالمرّة، فيما يعكسه من مبالغة في قوّة الولايات المتحدة، و في قدرتنا على التحكّم في أحداث العالم ... و من بين وجهات النظر المختلفة التي أصبحت الآن مرتبطة بالمحافظين الجدد، أغربها بالنسبة لي هي الاقتناع بأن الولايات المتحدة يمكنها تحويل العراق إلى ديموقراطية على النسق الغربي .. ثم المضي من ذلك إلى تحويل دول الشـرق الأوسط الكبير إلى الديموقراطية .." .
و يواصل فوكوياما متسائلا " إذا لم يكن بإمكان الولايات المتحدة أن تقضي على الفقر داخلها، أو أن تقوم بتجويد نظامها التعليمي، كيف تتوقّع أن تطبّق الديموقراطية على جانب من العالم، قد عمد إلى مقاومتها بعناد، و هو غارق في مناهضة أمريكا .." .

التقييم العام لا يسرّ !

و يطرح فوكوياما بعد ذلك جانبا من أفكاره التي بلورها في كتابه الأخير ( بناء الدول .. الحكم و النظام العالمي في القرن الحادي و العشرين )، و الذي سنتناوله بالتفصيل فيما يلي من حديث، لأهميته القصوى بالنسبة لنا، فهو يرسي أسسا جديدة لكيفية قيام الولايات المتحدة بإعادة بناء حياتنا، وفقا للنموذج الأقرب لمصالحها و أحلامها، و الذي تحاول أن تقنع العالم أنه الأفضل للدول النامية .
يقول " لقد انشغلت أمريكا بما يصل إلى 18 مشروع لبناء دول، بين فتحها للفليبين عام 1899، و الاحتلال الحالي لأفغانستان و العراق .. و التقييم العام لذلك لا يسرّ .." .
و عن احتلال العراق، يقول فوكوياما " منذ غزو الولايات المتحدة للعراق، وحقيقة الأمر تقول أننا نبدو كالضيف الثقيل الذي لم يوجّه إليه صاحب البيت الدعوة إلى حفل العشاء .. لقد كنّا كعادتنا ناقصي كفاءة، و غير قادرين على تنظيم أنفسنا في التخطيط للقيام بمهمة إعادة البناء، الأمر التي كان يمكن التنبؤ يه مسبقا، و الذي ما كان يجب أن يفاجئ أي شخص يعرف التاريخ الأمريكي .." .
و يختم فوكوياما كلامه في هذه النقطة قائلا أن أمريكا " تحتاج أن تكون أكثر واقعية بالنسبة لقدراتها في مجال (بناء الدول )، و أكثر حرصا عند التصدّي لمشروعات ( البناء الاجتماعي ) الكبيرة، في أجزاء من العالم لا تفهمها جيدا .." .

و إلى الرسالة التالية، لنرى ما يقوله فوكوياما عن لعبة معاداة أوروبا، بكل ما يحوطها من نزق