الأحد، أبريل ١٩، ٢٠٠٩

الكتاب الأخير لفوكوياما

غياب النمط الأمثل للمؤسسة الحكومية


في كتابه الأخير، يقول فوكوياما " من المفيد ـ بالتأكيد ـ أن نحاول فهم مشكلات إدارة المؤسسة، أو الفساد في القطاع العام أو الحكومي، من خلال مصطلحات ( صاحب الحق ـ الوكيل )، لاستغلال ذلك الإطار في رسم مؤسسات تسعى إلى التوفيق ثانية بين المصالح المتنافرة .. " .
ثم يضيف هناك ثلاثة أسـباب رئيسية ـ على الأقل ـ لعدم إمكان الاتفاق على مواصفات مبدئية للمؤسسـات النمطية، و عدم وجود مواصفات مبدئية للمنظمات، و بشكل خاص ما يتّصل بوكالات القطاع العام .
أولا: عدم وضوح الأهداف .
أهداف الكثير من المؤسسات و التنظيمات تكون غير واضحة . و لا يمكن أن يقف الموظّف أو المدير أو
الوكيل عند حدود إرادة أصحاب الحق، إلا إذا عرف أصحاب الحق ما يريدونه بالضبط ممن ينوب عنهم في
إدارة الأمور و تسييرها، لكن الوضع لا يكون دائما هكذا . فالأهداف غالبا ما تظهر و تكتمل من خلال التأثيرات المتبادلة، بين العاملين في المؤسسة، أو أن تتحدّد عن طريق النظم و القواعد التي تحكم عمل العاملين في المؤسسة . فالعمل يمكن تقسيمه وظيفيا خلال تنوّع من الطرق، التي غالبا ما تفضّل بعض الأهداف التنظيمية على الأخرى، و ليس جميع الأهداف في نفس الوقت .
ثانيا : صعوبة الرصد و المراقبة .
النظم المعتادة في الرصد و التقييم، و بشكل خاص في الإدارة العامة، إمّا لما يتطلبه من تعاملات ذات تكلفة عالية جدا، أو لأنه ببساطة مستحيل لنقص الوضوح للجهد الذي يتطلبه . في هذه الحالات، يكون الأكثر كفاءة، في أغلب الأحوال، مراقبة سلوك و تصرّف الوكيل أو الموظّف من خلال المعايير غير الرسمية، لكن هذا الخيار تكون له عيوبه الخاصة .
ثالثا : المفاضلة بين الكفاءة و المخاطرة .
الدرجة المناسبة لتوكيل النائب في اتخاذ القرارات، تختلف وفقا لشروط النمو الداخلي أو النمو الخارجي، التي تواجهها المؤسسة مع الزمن . و جميع أشكال التوكيل أو الإنابة تتراوح بين حدّي الكفاءة و المخاطرة، و أن كلّ من درجة المخاطرة و المستوى المناسب من الإنابة أو التوكيل، غالبا ما يكون من الصعب على المؤسسة أن تحدده .

الغموض في الأهداف

المصدر الأول للغموض في أهداف المؤسسات، غالبا ما يكون غير واضح، أو متناقض، أو من الصعب توصيفه . و يقول فوكوياما أن إطار ( المالك – الوكيل ) يفترض أن أصحاب الحق أفرادا عقلاء، يفهمون مصلحتهم الخاصّة تماما، و يوكلون السلطة إلى الإداريين أو النواب وفقا لتلك المصالح . و السلطة تسبح في اتجاه واحد، من قمة تسلسل الرئاسات إلى قاعدته . المشاكل داخل المؤسسة من قبيل ارتكاب الموظف لمخالفات، أو وقائع فساد، أو حتّى الغرق ببساطة في البيروقراطية، تحدث كلّها كنتيجة للسلوك الخاضع للمصلحة الذاتية من جانب الموظّف، الذي لا يجد نفسه في نفس هيكل الحوافز الخاص بالمالكين أو أصحاب الحق، أو تحدث من الذين لا يفهمون سلطة أصحاب الحق، أو يجدوا أنفسهم غير قادرين على إطاعتها .
و يعلّق فوكوياما على هذا قائلا أن أحد مثالب إطار ( المالك ـ النائب )، هو افتراضه أن السلطة و النفوذ يتدفقان في اتجاه واحد: من أعلى إلى أسفل . و العديد من التناقضات التي تنشأ بين صاحب الحق و المدير أو الموظّف، تنتج عن اختلاف التفسيرات حول أفضل الطرق لتحقيق الأهداف العامة، و التي قد لا يكون الحق فيها إلى جانب المالك دائما . أو تنشأ من تناقض التفسيرات فيما هو أفضل شيء لتعظيم مصلحة المالك . و يستخلص فوكوياما من هذا، أن هيكل السلطة المركّب داخل المؤسسة أو التنظيم، يفسّر لماذا يكثر عدد المحافظين، الذين يميلون إلى الجمود في أماكنهم، و هم بالقطع الذين نطلق عليهم " البيروقراطيين " .
و بالنسبة للمصدر الثاني للغموض، لا يمكن لنا أن نجعل مصالح و دوافع الموظّف أو المدير أو النائب تتطابق تماما مع مصالح صاحب الحق أو المالك . و يعلّق فوكوياما قائلا أن جانبا كبيرا من نظرية النظم، يركّز على الآليات التي تسمح بأكبر قدر من التقارب بين المصلحتين . كما أنه من المستحيل، في كثير من الأحيان، أن نرصد نتيجة جهد المديرين أو الموظفين، بطرق تجعلهم مسئولين عن أعمالهم . و هناك منهج آخر للتحكّم في الموظفين، تعتمد على معيار أو قواعد السلوك، و على جهد الموظّف في التشكيل النشيط لوظائف صلاحياته .
و يقول فوكوياما أن قدرة هذين التصورين في أن يكمل أحدهما الآخر، و على أن تحل كلّ منهما مكان الأخرى، تصنع المصدر الثاني لغموض النظم و المؤسسات
و لكن .. كيف يحل فوكوياما إشكالية : أصحاب الحق ـ الوكلاء ـ الدوافع ؟ .

الدول الضعيفة هي مصدر الخطر !

في الفصل الثالث من لكتاب، نصل إلى بيت القصيد، أو الهدف الحقيقي من هذه الدراسة الموجّهة، لحساب خطط المحافظين الجدد في الولايات المتحدة . و هو هنا يتكلّم عن " الدول الضعيفة، و الشرعية الدولية " . و لتبرير سياسة التدخّل العسكري من جانب الولايات المتحدة، و احتلالها للعديد من الدول النامية، يخرج علينا فرانسيس فوكوياما، بنظرية مفادها أن ضعف الدول الضعيفة ـ أيا كان سببه ـ يضرّ بمصالح الولايات المتحدة، و يقتضي منها التدخل، بسبب أو بدون سبب ! .
يقول " منذ نهاية الحرب الباردة، أصبحت الدول الضعيفة أو الفاشلة المشكلة الوحيدة الأكثر أهمية أمام النظام العالمي .. و هذه الدول الفاشلة أو الضعيفة تنتهك حقوق الإنسان، و تثير الكوارث الإنسانية، و تقود إلى موجات واسعة من الهجرة، و تعتدي على جيرانها .." . و عندما نتأمّل هذه الكلمات على ضوء ما حدث ـ فقط ـ في أفغانستان و العراق، نتسـاءل من الذي انتهك حقوق الشعبين، في سجونه و خارجها ؟، ومن الذي يثير الكوارث الإنسانية التي لا تنقطع أخبارها ؟ ، و من الذي يشكّل أكبر مشكلة حاليا بالنسبة لمعظم دول العالم، و لجميع عقلاء شعوب العالم ؟ .. أليست هي الولايات المتحدة، بفضل المشاريع الجنونية التي تخطط لها الأصولية الأمريكية ( يهودية و مسيحية ) ؟، و يساندها كبار أثرياء السلاح و البترول و المقاولات، الذين يمسكون بأقدار الشعب الأمريكي بين أيديهم ؟ .
ثم يضيف فوكوياما " و منذ 11سبتمبر، بدا أيضا واضحا أن هذه الدول تأوي إرهابيين دوليين، الذين يستطيعون أن يسببوا ضررا واضحا للولايات المتحدة، و لغيرها من الدول المتطوّرة .." . و هو هنا يتكلّم عمّا بعد 11 سبتمبر، و لا يذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي حشدت جيوش الجهاد الإسلامي من جميع أنحاء العالم العربي و الإسلامي، و تحالفت مع بن لادن، و زودته بمعين لا ينضب من المال و السلاح و التأييد القوي .. و كان كل ذلك لحساب ضرب النظام الموالي للسوفييت من أفغانستان، و تحت شعار محاربة قوي الشر ( و إن كانت الأيام قد أثبتت أن الولايات المتحدة كانت منذ زمن طويل، و ما زالت، منبع الشرور في عالمنا ) . الحقيقة الخالصة، هي أن الولايات المتحدة هي التي تحدث بنفسها جميع الأضرار .

الدوافع الإنسانية الكاذبة

الغريب أن فوكوياما كتب كتابه هذا عام 2004، أي عندما وضح الوضع العراقي للعالم بأكمله . و بعد أن نجحت أمريكا في تحويل العراق إلى صورة مكبّرة مضخّمة لأفغانستان، قبل و بعد الاحتلال الأمريكي . لم تكن العراق دولة ضعيفة ( بمنطق فوكوياما ) قبل احتلال أمريكا لها، و في حقيقة الأمـر، لم تصبح دولة ضعيفة متهاوية، تقوم إدارتها على مجموعة كبيرة من المغالطات و الأكاذيب، إلاّ بعد الغزو الأمريكي، و في ظل إدارة بريمر و من خلفه عناصر النظام الأمريكي .
و يقول فوكوياما أن مشكلة الدولة الفاشلة، التي كان ينظر إليها سابقا بشكل عام، باعتبارها موضوع إنساني، أو موضوع حقوق إنسان، ظهر لها فجأة بعدا أمنيا رئيسيا . و حقيقة الأمر أنه لا أمريكا و لا أي من الدول الصناعية الثرية الكبرى قد كانت لتدخلاتها في دول العالم الثالث، أو الدول النامية أي نوع من الدوافع الإنسانية، و لم يكن لها غير الهدف الرباعي : البترول، و المواد الخام، و العمالة الرخيصة، و الأسواق . ثم هو يستدل بقول مايكل إجناتييف " و ظهر أيضا في تسعينيات القرن الماضي فشل عام في الخيال التاريخي، و هو عدم قدرة الغرب فيما بعد الحرب الباردة على إدراك الأزمة البازغة في نظام الدولة، في كثير من المناطق المتداخلة من العالم ـ من مصر إلى أفغانستان ـ ستكون مهـددة لنا في بلادنا .. " .
و من بين أسباب عدم استقرار الشرق الأوسط التي يوردها فوكوياما، غياب الديموقراطية، أو أي مشاركة سياسية شعبية معقولة . لكنّه يستدرك ـ تحت وطأة الواقع التاريخي الذي لا ينكرـ فيقول " فقد كان ينظر إلى الطبيعة الشمولية المتزايدة للحكم في المنطقة، باعتباره أمرا مقبولا من الولايات المتحدة، التي كانت تتهم بوجود دوافع خفية عندها في دعمها لنظم مثل العربية السعودية و مصر .. " .
و من ناحية أخرى، يرى فوكوياما أن الأوضاع في الشرق الأوسط قد بلغت هذا القدر من السوء نتيجة للركود الاقتصادي، و هو يرى أن المنطقة " قد فاتتها ـ إلى حدّ كبير ـ موجات الإصلاح الاقتصادي، التي تميّزت بها أمريكا اللاتينية، و آسيا، و مناطق أخرى من العالم النامي، خلال ثمانينيات و تسعينيات القـرن الماضي " . و أن ذلك الكسـاد ساد جاء بالتحديد في وقت كانت فيه هذه الدول تعاني من تضخّم شبابي، خلق عشرات الآلاف من الشباب المتعطّل . و هو يرى أن العديد من حالات الكساد هذه ـ كما هو حال الدول النامية في أجزاء أخرى من العالم ـ يمكن إرجاعها إلى ضعف الأداء الحكومي، من جانب الدول التي لا تشجّع نشاط الاستثمار الخاص، و الاعتماد على الأسواق ذات الكفاءة .

في الرسالة التالية يتحدّث فوكوياما عن " إدارة بوش .. و الطموح الإمبراطوري " .