الكتاب لثاني لفوكوياما
ضعف الدول النامية
يهدد الاستقرار العالمي
الكتاب الجديد لفرانسيس فوكوياما يحمل عنوان " بنـاء الدول : الحكم و النظام العالمي في القرن 21 " . جاء هذا الكتاب بعد كتابه الشهير، و المثير للجدل " نهاية التاريخ "، و بعد حدث هام آخر، هو تمرّده على جماعة المحافظين الجدد، التي تسيطر على الإدارة الأمريكية حاليا، و التي كانت قد تبنّت فوكوياما بعد ظهور الأفكار الأولى لنهاية التاريخ في مقال، نشر في مجلتهم " الاهتمامات القومية " .. لقد تكلمنا من قبل عن الكتاب الأول، و في قراءتنا للكتاب الجديد، نحاول أن نرى إذا ما كانت منطلقاته السابقة، ما زالت كما هي، أم أصابها شيء من التغيير ؟ .
عن الكتاب، يقول فوكوياما في مقدمته، أنه يتكوّن من ثلاثة أجزاء رئيسية:
الجزء الأول يطرح إطار تحليلي يساعد على فهم الأبعاد المتعددة لكيان الدولة، و يعني بذلك وظائف الحكومة، و قدراتها، و أسس شرعيتها . و هذا الإطار، يشرح لماذا تكون الحكومات ضعيفة للغاية في معظم الدول النامية .
و الجزء الثاني من الكتاب ينظر في أسباب ضعف الدولة، و بصفة خاصّة، لماذا لا يوجد علم للإدارة العامة، رغم الجهود الحديثة من جانب الاقتصاديين لإرساء أسس مثل هذا العلم . هذا النقص، يحدّ بشدة من قدرات من يسعون لمساعدة هذه الدول على تقوية حكوماتها من خارجها .
أمّا الجزء الثالث و الأخير، فيناقش الأبعاد الدولية لضعف الدول: و كيف أن هذا الضعف تنتج عنه حالة عامة من عدم الاستقرار، و كيف أن ضعف قدرة بعض الدول قاد إلى تآكل مبدأ السيادة في النظام العالمي، و كيف أن التساؤلات حول الشرعية الديموقراطية قد سيطرت على الجدل الدائر ـ على المستوى العالمي ـ بين الولايات المتحدة، و أوروبا، و غيرهما من الدول المتطوّرة في النظام العالمي .
الديموقراطية الجزئية
و الحقيقة، أنني لا أتصور أستاذا جامعيا مثل فوكوياما، لا يعرف طبيعة التحوّل في سيادة الدول، نتيجة لانتقالنا من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات .
الدول النامية الضعيفة التي يتكلّم عنها فوكوياما، ليس لها دور في التغيّر الحادث في مجال سيادة الدول، و بالتحديد سيادة الدول الصناعية الكبرى، التي تمتعت بها طوال عصر الصناعة . لقد كان عصر الصناعة هو عصر سيادة الدول، و عصر رسم الخرائط الجغرافية الدقيقة، الأمر الذي لم تكن له كلّ هذه الأهمية خلال عصر الزراعة الذي امتد إلى عشرة آلاف سنة .
و سيادة الدولة، كما قلنا من قبل، تتأثّر منذ بدايات عصر المعلومات بتطورين أساسيين .
التطور الأول، يتّصل بانقضاء صلاحية ديموقراطية التمثيل النيابي التي ابتكرها رجال الصناعة الأوائل، لتساعد على مواجهة أعباء اتخاذ القرارات المتزايدة الكم، نتيجة لكون الحياة أصبحت أكثر تركيبا، و نتيجة انفصال الإنتاج على نطاق واسع عن الاستهلاك على نطاق واسع ممّا استوجب ظهور السوق بمعناها المعاصر، و أيضا نتيجة لظهور مؤسسات جديدة نابت عن الأسرة في القيام بالواجبات التي كانت تتكفّل بها طوال عصر الزراعة .. ظهرت الديموقراطية النيابية الحالية، التي تعتبر بجميع المقاييس ديموقراطية جزئية، نتيجة لعجز كيان صناعة القرار، حتّى مع التوسّع الكبير فيه بعد انضمام الصفوة الجديدة، عن تحمّل عبء اتخاذ القرار .
تآكل السيادة، لحساب من ؟
و مع بدايات دخولنا إلى عصر المعلومات، في منتصف القرن الماضي، بدا واضحا تناقض ذلك الشكل الديموقراطي مع طبيعة و احتياجات عصر المعلومات . و كان الحل ـ الذي يتّفق أيضا مع التحوّل من المركزية الممعنة إلى اللامركزية ـ هو إعادة توزيع عبء اتخاذ القرار، بحيث تهبط النسبة العظمى من القرارات، إلى ما دون القمّة من مستويات، بلوغا إلى القواعد .. و هذا شرط أساسي لديموقراطية المشاركة التي تنسجم مع طبيعة مجتمع المعلومات . و هو يعني فقدان الدولة لجانب عظيم من سلطة اتخاذ القرار لحساب المستويات القاعدية و الفئوية، ممّا يعني فقدانها لجانب كبير من سيادتها التقليدية .
أمّا الجانب الآخر الذي ستفقد فيه الدولة سيادتها، فسيكون لحساب المؤسسات العالمية بمختلف أنواعها، الاقتصادية و القانونية و الاجتماعية و السياسية .
الأبعاد المفقودة للدولة
يقول فوكوياما في فصل بعنوان " الأبعاد المفقودة للدولة "، أن الدولة مؤسسة إنسانية قديمة، يرجع تاريخها إلى عشرة آلاف سنة، بداية المجتمعات الزراعية الأولى . و الدولة، أصبح لها الآن العديد من الوظائف . و نفس قوّة الإكراه و القصر التي أتيحت لها من أجل حماية حق الملكية، استخدمتها في وضع اليد على أملاك المواطنين، و انتهاك حقوق المواطنين . و لهذا، أصبحت مهمة النشاط السياسي المعاصر محاولة استئناس قوّة الدولة .
و هو يقول أن الدولة الحديثة، ليست هي النمط السائد في المجتمعات البشرية، كما في حال الشعوب التي كانت تحت الاستعمار . و يضيف أن انحسار الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، قاد إلى حركة نشطة في بناء الدول على امتداد العالم النامي .. نجحت في بعض الدول كالهند و الصين، و تحققت بالاسم فقط في العديد من دول أفريقيا و آسيا و الشرق الأوسط .
و يضيف أن " مشكلة الدول الضعيفة، و حاجتها إلى إعادة بناء، كانت قائمة لعدة سنوات، لكن هجوم 11 سبتمبر جعل هذه الحاجة أكثر وضوحا . و الفقر ليس هو السبب الأعظم للإرهاب . فالذين نظّموا الهجوم على مركز التجارة العالمي و البنتاجون في ذلك التاريخ، كانوا من خلفيات طبقة متوسطة، و اكتسبوا أصوليتهم، ليس في بلدانهم، و لكن في دول أوروبا الغربية .." .
تجاهل السياق التاريخي
يحاول فوكوياما أن يفسر جانبا من إشكاليات الدول النامية في تعاملها مع الدول المتطوّرة، مغفلا جذور الأوضاع التي خلقت التناقض المبدئي بين الجانبين، و هو أن الدول الصناعية الكبرى، و لعقود طويلة، استعمرت الدول غير الصناعية التي يمكن استغلالها في تحقيق فوائد للدول الصناعية الكبرى، سواء في وضع اليد على المواد الخام و الطاقة التي بها، أو الاعتماد على عمالتها المتخلّفة في خفض نفقات إنتاجها الصناعي، ممّا يحقق لها موقفا تنافسيا أفضل مع نظيراتها، بالإضافة إلى الاعتماد على هذه الدول المستعمرة كسوق لتوزيع إنتاج مصانعها .
ينسى فوكوياما ، و غيره، أن الدول الصناعية الكبرى راجت و ازدهرت حياتها وثقافتها على حساب هذه الدول التي استعمرتها، و التي كانت لها ـ في أغلب الأحيان ـ ثقافة و حضارة عظيمة، استفادت منها الدول الصناعية ـ ذاتها ـ في الخروج من ظلمات عصر النهضة إلى عصور التنوير و النهضة المادية الحديثة .. ينسى هذا، و يتكلم عن الدول الضعيفة التي استنزفها عصر الصناعة، كفئران تجارب في معامل الفكر الغربي الحالي .
معاودة الخلط التاريخي
يقول فوكوياما في كتابه الجديد " بناء الدول "، أن هجمات 11 سبتمبر قد لفتت النظر إلى مشكلة محورية أمام الغرب، يصوّرها كالتالي " العالم العصري يقدّم حزمة مغرية للغاية، جامعا بين الرواج المادي لاقتصاديات السوق، و الحرية السياسية و الثقافية للديموقراطية الليبرالية . و هي حزمة يتطلّع إليها العديد من البشر في العالم، الأمر الذي يثبته التدفق الكبير للمهاجرين في اتجاه واحد، من الدول الأقل نموا، إلى الدول الأكثر نموا .." . لكنه يستدرك قائلا أن حداثة الغرب الليبرالي يكون من الصعب التوصّل إليها بالنسبة للعديد من المجتمعات في أنحاء العالم .. إلى أن يقول " حقيقة أن الحكومات الغربية، و وكالات التنمية متعددة الجنسيات، لم تستطع أن تقدّم الكثير في مجال النصيحة أو المساعدة المفيدة للدول النامية، تحد من الأهداف العالية التي تسعى لتحقيقها .." .
* * *
هنا، كما في أجزاء أخرى من الكتاب، يتغافل فوكوياما عن الحقيقة التي لن أملّ من تكرار ترديدها، و هي أن الاقتراب من أي مجتمع يجب أن يكون وفق فهم الأسس المجتمعية التي حققها نمط التكنولوجيا السائدة في مجال العمل، و طبيعة النظم القائمة عليها .
و إلى الرسالة التالية، لنوالي استعراض الجديد في الكتاب الثاني لفوكوياما .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق