الكتاب الثاني لفوكوياما
و ما بعد رفع راية العصيان
في صيف عام 2004، نشرت مجلة " الاهتمامات القومية "، المعبّرة عن فكر المحافظين الجدد في أمريكا، مقالا من 12 صفحة، يتضمن هجوما بقلم فرانسيس فوكويامـا على زميله في جماعة المحافظين الجدد تشارلز كراوتهامر، أكبر المتحمسين لحرب العراق . لقد انقلب النجم الصاعد فوكوياما على إجماع الجماعة، و انتقد حرب العراق بشدة، و تمنّى عدم فوز جورج بوش بولاية ثانية، أثناء معركة الرئاسة .
بعد رفع راية العصيان هذه، انهمك فوكوياما في إكمال كتابه التالي ( بناء الدول – الحكم و النظام العالمي في القرن 21 )، الذي ظهر في نهاية عام 2004 .
لقد حاولت أن أرى ملامح خريطة التحوّل الذي حدث في فكر فوكوياما، ما بين نهاية التاريخ و بناء الدول، خاصة بعد تملّصه من قبضة العصبة الرجعية الأمريكية .
و الحق، أنه من مقدمة الكتاب حتّى نهايته، وجدت أن فوكوياما قد فقد جوهر كتاب نهاية التاريخ، أعني بذلك اللعب بالألفاظ و التعبيرات، و راح يتخبّط بين حسابات الماضي و الحاضر و المستقبل . و لكن عندما يقع الكتاب بين يدي القارئ الجيد الذي يستطيع أن يفكّ شفرته، ستكتشف أن فوكوياما ما زال يحتفظ بمكانه وسط باقة المحافظين الجدد، و أن الكتاب هو محاولة أخرى لتبرير كل الأفكار السخيفة، و الممارسات غير العادلة أو المنطقية، التي تميز الإدارة الأمريكية الحالية .
الإيدز .. و الحكومة القويّة
على عكس ما وصل إليه عقلاء المفكرين المستقبليين في العالم، من أن المستقبل ـ و بالتحديد في مجتمع المعلومات ـ تفقد الدولة سيطرتها من جانبين .. مرّة لحساب الشعب، و من خلال المشاركة الفعلية للبشر على مختلف مستوياتهم في صنع القرارات التي تمس حياتهم، بأنفسـهم و دون إنابة أو توكيل .. و مرّة أخرى نتيجة استقطاع المؤسسات و الكيانات العالمية لجانب كبير من سلطة و سيادة الحكومة المحلية .. على عكس هذا، ينادي فوكوياما بالحكومة القوية القادرة المتحكمة، متحدثا عن بناء الدول، وخلق مؤسسات حكومية جديدة، و تقوية الحكومات القائمة، باعتبار ذلك أهم الأهداف في عالمنا، باعتبار أن الدول الضعيفة هي مصدر العديد من مشاكل العالم الجادة، كالإيدز و المخدرات و الإرهاب .
و يسعى فوكوياما إلى تعديل المسار الحالي في تطوّر المجتمع البشري، و القاضي بالحدّ من نفوذ الدولة، أو تقليص صلاحياتها، محاولا تعطيل تحوّل في صميم احتياجـات عصر المعلومات . و هو يقول " التوجّه السائد في السياسة العالمية، كان ـ على امتداد الجيل الماضي ـ انتقاد ( الحكومة الكبيرة )، و محاولة نقل أوجه نشاط من القطاع الحكومي إلى السوق الحرّة، أو إلى المجتمع المدني . لكن بصفة خاصّة في العالم النامي، تعتبر الحكومة الضعيفة، أو غير القادرة، أو المفتقدة، مصدرا للمشاكل الحادّة ." . و هو يطرح بالتفصيل مسألة الانتشار الوبائي لمرض الإيدز في أفريقيا . و لا يرى أن فقر البشر و الحكومات جاء نتيجة لعمر طويل من الاستنزاف الاستعماري، بل يصر على العكس من ذلك أن السرّ في هذا هو عدم قدرة الحكومات على تطبيق البرامج الصحية ..فحتّى لو توفّرت الموارد، فهناك غياب القدرة المؤسسية على التعامل مع المرض، في العديد من الدول الأفريقية .
إذا عرف السبب
و هو لا يخفي الدافع الحقيقي الذي جعله يهتم بحال هذه الدول الفقيرة، ذات الحكومات الضعيفة، فيقول أن " نقص قدرة الدولة في البلاد الفقيرة، أصبح مصدر قلق للعالم المتطور بشكل مباشر ..". و هذه الصراحة أفضل من الادعاءات التقليدية بالسعي إلى إسعاد العالم النامي .
ثم يقول " لقد خلّفت نهاية الحرب الباردة حزاما من الدول العاجزة أو الضعيفة، يمتد من البلقان، عبر القوقاز، و الشرق الأوسط، و آسيا الوسطى، و جنوب آسيا . و انهيار الدولة أو ضعفها، قاد بالفعل إلى كوارث إنسانية كبرى و في مجال حقوق الإنسان، خلال تسعينيات القرن الماضي، في الصومال، و هاييتي، و كمبوديا، و بوسنيا، و كوسوفو، و تيمور الشرقية . لبعض الوقت، كان بإمكان الولايات المتحدة و دول أخرى إدّعاء أن هذه كانت مجرّد مشاكل محلية، غير أن 11 سبتمبر أثبت أن ضعف الدولة ينطوي على تحد استراتيجي هائل، في نفس الوقت . إرهاب الأصولية الإسلامية، إذا اجتمع مع القدرة على الوصول إلى أسلحة الدمـار الشامل، يضيف بعدا أمنيا رئيسـيا لعبء المشاكل التي يخلقها الحكم الضعيف .. " .
هذا المنطق الذي يستهل به فوكوياما كتابه الجديد يستوجب مناقشة لأساسه و تفاصيله . لقد كانت الولايات المتحدة سعيدة غاية السعادة بالدول الضعيفة، و بالقيادات الدكتاتورية في نفس الوقت، طالما أنها تعتمد عليها جميعا في تطبيق سياساتها، و تحقيق المنافع الاستراتيجية التي تتوزّع على خريطة العالم .
و حجّة 11 سبتمبر التي يعلّق عليها كل ما لا يمكن تبريره من أفعال قبيحة، تحتاج إلى مناقشة أساسية .. فسياسات الولايات المتحدة في المنطقة، سواء في صراعها مع الاتحاد السوفييتي، أو في تأليبها للنظم الحاكمة، و إشعال الفتن بين مختلف الدول، و داخل كل دولة، لا يمكن أن يعتبر سرّا، و أدبيات مؤسسة راند التابعة للبنتاجون، تحكي بكل صراحة تفاصيل جهود أجهزة الاستخبار الأمريكية، و محاولات الاغتيال التي سعت إليها، لإحداث الفتن في بعض المناطق .
هذه ليست افتراءات، و لكنها جانب من الحقيقة التي تعترف بها أمريكا . هذا النشاط المشبوه ، منذ أيام الاتحاد السوفييتي، هو الذي قاد إلى النتائج التي تزعم الولايات المتحدة أنها تتحرّك الآن لمواجهتها و إصلاحها، و ليس ضعف هذه الحكومة، أو سقوط تلك .. و 11 سبتمبر ـ إذا أثبتت الأيام أنّه كان بتحريض من جماعة المحافظين الجدد، أو لم تثبت ـ هو الحصيلة الطبيعية للمطامع الأمريكية الواسعة، البترولية و العسكرية، في جميع أنحاء العالم .
حزام الفقر .. مسئولية من ؟
حزام الفقر هذا الذي يتحدّث عنه فوكوياما، باعتباره عورة من عورات البشرية، هو مسئولية الدول الصناعية، و الاقتصاد الصناعي الذي كان الاستعمار العسكري عنصرا أصيلا في تكوينه، كأداة لتحسين الموقف التنافسي للدول الصناعية . ثم هو بعد ذلك مسئولية الإمبريالية الأمريكية التي ورثت الاستعمار الصناعي، و حاولت تغطية استغلالها للشعوب الأخرى بدعاوى كثيرة، و أجهزة و مسميات مختلفة، انكشفت جميعها عندما أسفرت الرجعية الجديدة عن وجهها في عهد دميتها الجديدة جورج دبليو بوش .
هذه الحكومات الضعيفة، و الشعوب البائسة، هي النتيجة الطبيعية للطمع الأمريكي، الذي هو سبب ما نحن فيه حاليا، و ليس 11 سبتمبر .. بل أن 11 سبتمبر، و اندلاع حروب الإرهاب، هو أيضا نتيجة من نتائج ذلك الطمع، الذي تدعّم بالطمع الصهيوني الإسرائيلي :
• الأصولية الرائدة في عصرنا هذا، كانت الأصولية اليهودية . و لأسباب جغرافية متصلة بالمخطط الصهيوني، تفاعلت مع المجتمعات الإسلامية، التي كانت أول من تلقّى ضربة ( تسونامي ) اليهودي، فظهرت و قويت ـ بالعلاقات الجدلية ـ الأصولية الإسلامية .. و كان من الطبيعي أن تظهر الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، نتيجة للتناقضات التي تسود المجتمع الأمريكي، و انفصام الشخصية الذي نتج عن التطور العلمي و التكنولوجي المعلوماتي العظيم، و التخلّف الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي عن مقتضيات عصر المعلومات .
• لقد زرعت الولايات المتحدة بذور الإرهاب الإسلامي، في حربها لطرد السوفييت من أفغانستان، فدرّبت و سلّحت المقاتلين الذين قادوا بعد ذلك العمليات الإرهـابية في العالم، و العلم العربي خاصّة . لقد أنشأت خطّا ساخنا من العالم العربي و الإسلامي، إلى ضواحي لندن للتحضير النظري و الفرز، ثم إلى الولايات المتحدة للتدريب على الأسلحة الحديثة، و أخيرا العودة إلى أرض أفغانستان .
• و قبل هذا و ذاك، خضعت دول حزام الفقر و الضعف هذه، التي يشير إليها فوكوياما، لاستعمار الدول الصناعية الكبرى، منذ بدايات عصر الصناعة . و قام رخاء و تقدّم و تحضّر تلك الدول على حساب فقر و جهل و مرض الشعوب التي خضعت لذلك الاستعمار . لقد حققت الدول الصناعية من خلال الاستعمار أهدافها الثلاثية : الاستيلاء على موارد الشعوب المستعمرة من مصادر طاقة و مواد أولية، و الاستفادة من هذه الشعوب كمصدر للعمالة الرخيصة، و استغلال الدول المستعمرة كأسواق لبضائعها و منتجاتها .
* * *
بقي أن نعرف ما تغيّر في أفكار و توجّهات فرانسيس فوكوياما، في كتابه الجديد " بناء الدول ـ الحكم و النظام العالمي في القرن 21 " .
هناك تعليق واحد:
بعد هذا السرد الجميل أتسائل ما هى مواصفات الدولة القوية وما هى مواصفات الدولة الضعيفة؟
سؤال محير فقد ذكرت بعض كتب التاريخ ظهور مجموعة من الأقوام الأكثر تحضرا من المصريين القدماء لتملكهم أسلحة برونزية؟
هل هذا ما زال المفهوم بالنسبة للدولة الأقوى؟
تسعى كل الدول فى المفهوم الأيديولوجى لتحقيق الرفاهية لشعبها وفى اطار الشكل المثالى للأمور يجب ألا يكون هذا على حساب الآخر ولكن هذا مغاير للواقع
والتفرد الذى يحلم به البعض لحكم والعالم والسيطرة عليه مستحيل عمليا لاختلافات البشر طبقا للمكان والكيان.
لا سبيل لأى صلاح فى هذا العالم الا من خلال سيادة السلام الذى يدعمه القيم السليمة والمصلحة العالمية الخاصة والعامة لكل الدول.
آن الأوان لكل البشر أن يفهموا أن موارد اللكون مسخرة لصالح الآدمية.
أوافق فى الرأى القائل باستحالة هذا على المستوى العملى نظرا للطبيعة البشرية التى تميل لايثار النفس على حساب الآخر.
ولنا الله
إرسال تعليق