فوكوياما في كتابه الأخير
مشاكل الحكم ..
بين صاحب الحقّ و الوكيل !
في الفصل الثاني من كتاب " بناء الدول ..الحكم و النظام العالمي في القرن 21 "، يتحدّث فوكوياما عن التنظيم الإداري، فيقول أنه حتّى في إطار النطاق المحدود للتنظيم، لا يوجد حد أدنى من أشكال التنظيمات، سواء في وكالات القطاع الخاص أو العام . ممّا يعني أنه لا توجد قواعد مقبولة عالميا للتصميم أو الصياغة المؤسسية، ممّا يعني أن مجال الإدارة العامة يكون في الأساس أقرب إلى الفن منه إلى العلم .
و هو يقول " وهذا يكون له تأثير هام على سياستنا، في الطريقة التي نأخذ بها عند المساعدة على تقوية الدول في البلاد النامية، و في الطريقة التي ندرّب بها المختصين في هذا المجال .. الحلول الجيّدة في مجال مشاكل الإدارة العامة يجب أن تكون ـ بشكل ما ـ محلّية، ممّا يقتضي علاقة مختلفة تماما بين حكومات البلاد النامية، و مصادر المعونة أو الخبرة الخارجية .. " .
مشكلة تفويض الامتياز
فيما قبل عصر الصناعة، كان مالك النشاط هو مديره في أغلب الأحيان، و هو الذي يقوم باتخاذ القرارات الهامة في عمله، دون شريك . و في عصر الصناعة،و نتيجة للتطور الصناعي الذي أتاح الإنتاج على نطاق واسع، و من ثم التوزيع و الاستهلاك على نطاق واسع، و قاد إلى ظهور السوق بمعناها الجديد، حدثت أربعة أنواع من الانفصال، في حياة البشر العملية : بين العمال و أصحاب العمل، و بين المسـتهلكين و المنتجين، و بين المدّخرين و المستثمرين، و أيضا بين الإنسان و الطبيعة .
و حول هذا يقول فوكوياما " يدور قدر هائل من نظرية النظم حول مشكلة رئيسية وحيدة، و هي التفويض أو الإنابة في اتخاذ القرار .." . و يستعرض رأي يينسين أحد كبار منظري النظم، الذي يقول أنه لاستحالة تحريك جميع المعلومات إلى متخذ القرار المركزي، سواء كان مخططا مركزيا في اقتصاد ما، أو المدير التنفيذي في مشروع ما، يجب أن يتم تفويض معظم حقوق اتخاذ القرار إلى الأفراد الذين يمتلكون المعلومات المعنية . و ثمن إعادة توزيع المعلومات بين الأفراد، هو ضرورة تحويل بعض حقوق اتخاذ القرارات لامركزيا، في المؤسسات أو الاقتصاد . و يضيف يينسين أن هذه اللامركزية تقود بدورها إلى نظم تخفف من مشكلة التحكّم، الناتجة عن حقيقة أن أصحاب المصالح الشخصية الذين يتولون عملية اتخاذ القرارات، نيابة عن الآخرين، لا يتصرفون كنوّاب كاملين .
و يقول فوكوياما أن التمييز بين الفرد و مصالح المؤسسة، قاد إلى ظهور فرع كبير رئيسي للنظرية، تحت عنوان " العلاقة بين صاحب الحق و الوكيل أو المخوّل "، و هو الذي أتاح فهم مشاكل الحكم بوضوح .
و منذ بدايات القرن العشرين، اكتشف الباحثون أن انفصال الملكية عن الإدارة في المؤسسات الحديثة، يخلق قدرا ملحوظا من مشكلات إدارة المؤسسات . فالمالكون أو أصحاب الحق، يوكّلون عنهم في متابعة مصالحهم نواب أو مديرين، لكن هؤلاء الوكلاء أو النواب غالبا ما يستجيبون لدوافعهم و مصالحهم الخاصة، التي تختلف عن مصالح الملاّك . و هذه مشكلة تلازم جميع أشكل المؤسسات التي تأخذ بنظام تسلسل الرئاسات، و يمكن أن تظهر عند عدة مستويات من ذلك التسلسل، و في نفس الوقت .
الفساد الإداري و السياسي
و بمجرّد أن جرى التعامل مع نظرية ( المالك – الوكيل ) في مجال الشركات و المؤسسات الخاصّة، أصبح من السهل تطبيق إطارها في تفسير سلوك القطاع العام .
في القطاع الخـاص، أصحاب الحق هم حملة الأسهم، و نوابهم أو وكلائهم هم مجالس الإدارة و المديرون . أما في القطاع العام، فأصحاب الحق هم الشعب على اتساعه . في الدول الديموقراطية، يكون أعلى مستوى للوكلاء هم مجموعة النواب المنتخبون، و هؤلاء النواب المخوّلون يتصرفون كأصحاب حق أو ملاّك، بالنسبة للمديرين التنفيذيين الذين يندبون للفروع المختلفة، على أساس أن يتولوا تطبيق السياسات، التي تم وضعها لهم . و يظهر الفساد السياسي، عندما يضع هؤلاء الوكلاء المنفذون (موظفو الحكومة ) مصالحهم المالية الخاصة قبل مصالح أصحاب الحق الأصليين ( الشعب ) . و إلى الحلقة القادمة ، لنستكمل هذه النقطة، التي ستكون سهلة الفهم علينا، فنماذجها حولنا في كل مكان، و على مختلف المستويات .
نشأت المشكلة من التباين بين مصالح صاحب الحق و من أنابه للإدارة و التصريف، سواء في القطاع الخاص، أم في القطاع العام و الحكومة . و فوكوياما يعطي هذه المشكلة اهتماما خاصا، في عملية بناء الدول .. في جميع مجتمعات العالم، يوجد هذا التناقض بين مصالح صاحب الحق أو المال، و بين من يوكله لإدارته أو تصريف أموره ..
يقول فوكوياما أن الفساد السياسي ينشأ عندما يعمد النائب أو المخوّل الفرد، الذي هو هنا موظّف الحكومة، إلى تغليب مصالحه المالية الشخصية، على مصالح أصحاب الحق الذين أنابوه أو فوّضوه .
و يستدرك قائلا " لكن الوكيل (الموظّف )، يمكن أن يمضي عكس رغبات أصحاب الحق ( الشعب )، لأسباب أخرى أيضا، مثل رغبته في الإبقاء على وكالته أو إدارته، و يؤمّن وظيفته، أو لدوافع أيديولوجية تختلف عن دوافع أصحاب الحق الذين فوّضوه .." .
المصلحة الشخصية ليست بدعة !
و يشير فوكوياما إلى فرع أساسي في الاقتصاديات المعاصرة .. نظرية " الاختيار العام "، و هو يبـدأ بافتراض أن الوكيل أو المفوّض في مؤسسات القطاع العام، ستكون له أجندة مختلفة جدا عن أجندة أصحاب الحق الذين فوّضوه . و يقول المنظرون في هذا المجال أن الموظفين العموميين لا يختلفون عن أي وكيل اقتصادي آخر، في السعي إلى تعظيم مصالحهم الشخصية .
يضيف فوكوياما أن الحديث الشائع حول " الموظف العمومي "، يفترض أن موظف الحكومة سيكون توجّهه ـ بشكل ما ـ نحو التصرّف وفق المصلحة العريضة للجمهور، في الوقت الذي يكون فيه شرح سلوكه أفضل، وفق التجربة العملية، في إطار المصلحة الشخصية الضيّقة .
سلوك الموظّف الرسمي يمكن أن بتأثّر بالرشوة، أو بنشاط خارجي مدفوع، أو بخدمات لأفراد أسرته، أو بوعود الالتحاق بوظيفة أفضل . و يضيف فوكوياما أن هناك قدرا كبيرا من الجهد، يبذل حاليا، من أجل تطوير الحكم، بمحاولة تحقيق توافق أكبر بين دوافع النائب أو المفوّض، و بين المصلحة العامة .
الاتجاه العام للتوفيق بين مصالح الوكيل و مصالح صاحب الحق ( أي بين الموظف و الحكومة )، هو في السعي إلى المزيد من الشفافية، بالنسبة لنشاط الوكلاء أو الموظفين . و يعلّق فوكوياما على هذا ساخرا بقوله " و هي طريقة لطيفة للحديث عن مراقبة الموظفين الحكوميين ! " .
و هناك مقاربة أخرى، تصلح أكثر للتطبيق في مجال القطاع الخاص، منها في الحكومة أو إداراتها، تقول بتوحيد الملاّك و المديرون، بإعطاء الوكلاء أو المديرون فرص تملك الأسهم، أو أي شكل آخر من أشكال الملكية المشتركة .
و يقول فوكوياما أن النظريات الاقتصادية المؤسسات، شأنها شأن النظريات الاقتصادية بشكل عام، تنطلق من افتراض المنهجية الفردية .. ممّا يعني أن التنظيمات أو المؤسسات يمكن أن نفهما أساسا كتجمّعات لأفراد، تعلّموا أن يتعاونوا اجتماعيا، بدوافع المصلحة الذاتية الفردية .
و هذه الرؤية تميل إلى التأكيد على التناقضات في المصالح بين أفراد مجموعة العمل ( أي بين صاحب الحق و النائب أو المدير )، و هي من ثمّ تقلل من شأن عدد من المضامين مثل هويّة المجموعة، و الجهد الاجتماعي، و القيادة، إلى آخر ذلك .
و يعلّق فوكوياما قائلا " من المفيد ـ بالتأكيد ـ أن نحاول فهم مشكلات إدارة المؤسسة، أو الفساد في القطاع العام أو الحكومي، من خلال مصطلحات ( صاحب الحق ـ الوكيل )، لاستغلال ذلك الإطار في رسم مؤسسات تسعى إلى التوفيق ثانية بين المصالح المتنافرة .. " .
و إلى الرسالة التالية، لنتابع محاولة فوكوياما فهم مشكلات إدارة المؤسسة، و الفساد في القطاع العام، أو الحكومي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق